نيكولا شوفان جندي فرنسي اشتهر في التاريخ بأنه خدم في جيش نابليون، وتميز بالوطنية المفرطة وجرح عشرات المرات، فلما مات استخدموا اسمه ليدل على التعصب الوطني المبالغ فيه وغير المبرر أحيانًا.
الحقيقة أننا نمر بفترة حرجة جدًا من تدهور الثقة بالنفس، والشعور بأن الأرض التي وقفنا عليها طويلاً أرض مخلخلة. كتبت عن هذا من قبل، وكان في معرض رد على الأديب المبدع يوسف زيدان بصدد مقال له يعرض حقيقة صلاح الدين الأيوبي. لكني كذلك ضد تزييف الحقائق بحيث نمنحها حجمًا أكبر من الحقيقة بدافع الحماسة الوطنية أو الدينية. أريد أن نتعامل مع الأمور بحجمها الصحيح بلا زيادة أو نقصان، وما زلت – برغم اعتراض كثيرين – أرى أنه لا يجب قول الحقيقة كلها للجميع، لكننا لن نقول سوى الحقيقة.. لن نخترع شيئًا.
أحياناً تأخذنا الحماسة الشوفينية فنقول أشياء غير دقيقة.. مثلاً قرأت ترجمة لقصة (رحلة إلى باطن الأرض) صدرت في العراق في الثمانينات.. حين وجد بطل القصة الوثائق الخاصة بالرحالة أرني ساكنوسم، قالت الترجمة إنه وجدها مكتوبة باللغة العربية.. ثم كتبوا في الهامش: حين سئل (جول فيرن) لماذا اخترت أن تكون الوثيقة بالعربية رد: لأنها لغة المستقبل..
طبعًا لم يرد في القصة بتاتاً أن الوثيقة كتبت بالعربية.. كتبت بالحروف الرونية Ronic المستعملة في أيسلندا قديماً.. وهو كلام منطقي لأن القصة تدور هناك.. وبالطبع لم يقل (جول فيرن) هذه العبارة قط، ولم يقل أحد قط إنه غارق في غرامنا لهذا الحد. هنا تدخلت الشوفينية لتلوي عنق الحقيقة وتجانب الموضوعية، وهي تذكرني بمقولة هتلر المتشرة على النت: لو كان جيشي من المصريين لحكمت العالم!. هل تتخيل أن هتلر العنصري المفعم بالأفكار النازية قال هذا؟ ومتى اختبر الجندي المصري؟
الأمثلة كثيرة لهذه الشوفينية كما نرى في الإعلام حاليًا، ومنذ قصص القاهر والظافر وطوابير الإسرائيليين المصابين بالإسهال بسبب اقتراب المصريين، حتى قصص أسرنا قائد الأسطول السادس وسجنه في دار ابن لقمان، أو اختراع الكفتة الذي هز العالم، أو الخرسانة المستخرجة من الأشجار.. فهنا خليط عجيب شبه يومي من الشوفينية وانعدام الدقة العلمية.
لدينا في التراث الديني مثال بديع للدقة: بعد وفاة (إبراهيم) ابن الرسول صلى الله عليه وسلم ، حدث كسوف شمسي، فتصايح المسلمون أن الشمس حزينة للوفاة.. سمع الرسول هذا فغضب غضبةً عظيمة، وخرج إلى الناس ليقول لهم في حزم ووضوح:
إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وهما لا تكسفان لموت أحدٍ أو حياته.
كان بوسعه صلى الله عليه وسلم أن ينسب الكسوف إلى وفاة ابنه.. وكان المسلمون سيصدقونه ولن يحدث ضرر كبير، لكنه أبى إلا أن ينفي وجود ارتباط لأنه - ببساطة - لم يكن هناك ارتباط! إنها الدقة.
الحماسة التي تجعلك تزيف الحقائق.. هذا ما أتكلم عنه.
هناك حماسة شوفينية غير مبررة للوطن..
هناك حماسة شوفينية غير مبررة للدين..
هناك حماسة شوفينية غير مبررة للتاريخ..
المثال التالي مجرد مثال واحد وليس للحصر:
رأيت مؤخرًا صورة قيل إنها تمثل تطور طب الأسنان عند قدماء المصريين، وهي تمثل جراحة تقويم بالسلك لأسنان مومياء، ومع الخبر انبهار شديد بالعبقرية الفرعونية القديمة.
بصراحة لم أبتلع هذه الصورة قط، ولو افترضنا أنها فعلا لمومياء فرعونية فكيف تمت هذه الجراحة من دون أساليب تخدير متقدمة جدًا؟ شاهد هذا الفيلم هنا حيث يحاول المذيع الملثم – بلا سبب – أن يبهرنا بهذه المعلومة.
هناك برديات مصرية قديمة طبية مذهلة، ويكفي أن نتذكر بردية إيبرز أو بردية إدوين سميث وما فيها من تفاصيل طبية عجيبة تتحدث بالتفصيل عن 48 حالة كسور وإصابة. شاهد هذا الكليب القصير.
هذا الكلام منقول وأعتقد أنه دقيق:
"الفراعنة هم أول من قام بتصريف الخراريج وذلك بواسطة عملية تربنة بسيطة في عظم الفك هذا بالإضافة إلى ما ورد في بردية (ايبرس) في توصيته بحشو السنة بخلط الملاخيتا والصمغ واستخدموا المراهم في علاج تقيحات اللثة واللتي كانت مركبة من اللبن والثلج والخروب الجاف والايسون وثمار الجميز".
كل هذا جميل ولكن هل تمت هذه الجراحة المعقدة فعلاً على أحياء في زمن لا تخدير فيه؟
خرافة حكمة الأقدمين Ancient wisdom myth تجعلنا ننسب لأجدادنا العرب مثلاً أشياء كثيرة جدًا ربما لم يعرفوها، كما أنها تؤدي لهذا اﻹيمان المطلق بطب القدماء في عصر كانوا يعتقدون فيه أن الشرايين تنقل الهواء والكبد يصنع الدم. الحقيقة أنهم كانوا يجهلون كل شيء تقريبًا عن أجسادهم. هنا تظهر الشوفينية بقوة. على الجانب الآخر تجد شوفينية فرعونية واضحة.. هناك نوع من الأصولية الفرعونية تمارسها أطراف كثيرة، وهناك أناس يعتبرون من العيب أن تعتقد أن قدماء المصريين كانوا يجهلون شيئًا ما. تتكلم عن الراديوم فيقولون لك إن الفراعنة عرفوه ودهنوا به المقابر.. تتكلم عن الاسكواش فيؤكدون أن هناك معابد في دندرة تظهر جدرانها مباراة اسكواش كاملة. لابد من التعصب.. العرب أو الفراعنة.. المهم أن تتعصب.
منذ ولدت يقال لي إن الفراعنة اكتشفوا سر التحنيط الذي لم يصل له أحد، وما أعرفه أن التحنيط ليس سرًا وأن العلماء حنطوا حيوانات كثيرة، لكن صار عارًا أن تقول غير أن التحنيط ما زال سرًا!
قال لي أحد أصدقائي ساخرًا عندما رأى تشككي:
"وما مصلحة من يختلق قصة كقصة الأسنان هذه؟ هل هي دعاية لأطباء أسنان منف؟"
قلت له إن شهوة الشهرة قوية جدًا، ويمكن أن يدخل اسم هذا الرجل علم الآثار بسهولة كبيرة. تذكر أن بردية إدوين سميث لا تحمل اسم العالم الذي اكتشفها بل اسم تاجر الآثار الحرامي الذي امتلكها والذي دخل التاريخ للأبد.
هناك هياكل عظمية مفبركة بالكامل كان العالم يخترعونها قديمًا لمجرد الشهرة. وهنا يظل التحليل الكربوني هو الفيصل الوحيد.
بحثت عن الصورة في النت كثيرًا، فوجدت أولاً معلومة تقول إن السلك تم تثبيته على أسنان المومياء بعد الموت. هذا يبدو منطقيًا طبعًا... المعلومة الثانية هي أن هذه الأسنان من صيدا اللبنانية وليست من مصر أصلاً. طالع المقال هنا.
"ونقلاً عن متحف الجامعة الأمريكية ببيروت، فهذه القطعة والمعروفة باسم 'فك فورد' تعود إلى القرن الخامس ق.م. وعثر عليها بداخل تابوب بمنطقة صيدا اللبنانية"
The Ford mandible, dates from the 5th c. BC. It was discovered in a sarcophagus in Sidon. The 6 front teeth were about to fall due to a gum disease “purea”. The Phoenician dentist bound them together with a gold wire in a perfect technique. It is the earliest known example of dentistry and the highlight of the AUB Museum collection.
المثال الوحيد المحتمل لجراحة تقويم أجريت في عصر قدماء المصريين أثناء الحياة هي الصورة التالية، وتعود لنهاية الأسرة الرابعة:
كما قلت لك: هذه نقاط فرعية لكنها تعكس أسلوبًا عامًا في التفكير يجعلك تصدق أي شيء. ما زال كثيرون يرفضون أن يكون علاج الكفتة هلوسة فاشلة وغير علمية، وبعضهم يعتقد أن عقار السوفسبوفير الذي يوشك على حل مشكلة التهاب الكبد سي ف مصر، والذي قتل بحثًا.. ما زالوا يعتقدون أن هذا هو علاج الكفتة نفسه!