Wednesday, October 11, 2017

قصص لا تكتمل - 5


رسوم طارق عزام

المشهد بالداخل لم يكن غرفة على الإطلاق.. كانت قاعة فسيحة.. هناك رجال ونساء يجلسون إلى أجهزة كمبيوتر منهمكين في عمل غامض، وهناك تقسيمات بطريقة Cubicles تفصل مكان عمل كل واحد.

هناك فتية يمشون مسرعين وهم يحملون أوراقًا تحت إبطهم، وهناك منقي مياه في الركن، وستائر فينيقية تلقي ضوءها المقسم إلى شرائح على المكان. في خلفية القاعة مكتب مغلق يقف بجواره رجل أمن صارم، واللافتة تقول (المدير)! كل شيء يوحي بأنه دخل إلى شركة تتخذ مقرها هنا. شركة مشغولة جدًا كما هو واضح.

أوشك على التراجع.. لكن موظفًا قوي البنية يلبس قميصًا قصير الكمين وربطة عنق برز له، وجره من ساعده في حزم قائلاً:
«تأخرت!.. المدير ينتظرك!»

لم يجد الكلمات الكافية ليتساءل..

فقط وجد أن رجل الأمن يفسح له ويفتح الباب، ثم وجد نفسه في غرفة فسيحة تتوسطها مائدة اجتماعات.. على المائدة ملفات ودوارق ماء وبعض البسكويت، والدخان يعم هواء الغرفة من كثرة التدخين، وحول المنضدة جلس مجموعة من السادة المهمين ذوي النظرات الصارمة.. اجتماع مجلس إدارة كما هو واضح.

عند مكان الصدارة من المائدة – حسب قواعد البروتوكول – كان المدير.. يمكنك بسهولة أن تدرك أنه المدير بأناقته وشعره الأشيب وكرشه والنظرة النفاذة القائدة في عينيه.

«انتظرناك طويلاً يا أستاذ مصطفى.. هلا تفضلت بالجلوس؟».

سحب مقعدًا وجلس وعشرات الأسئلة تزدحم على لسانه.. هم يعرفونه وكانوا ينتظرونه؟

وجد من يقدم له لفافة تبغ ويشعلها ومن يسأله عما يشربه فطلب قهوة. ثم نظر متسائلاً إلى المدير..

قال المدير وهو يجلس مسترخيًا:
«لا أستطيع شرح كل شيء.. محاولة تفسير الأمر بالنسبة لك عسيرة، لكن هذا ما نفعله طيلة الوقت.. ربما منذ ميلاد اللغة..»

«ما الذي تفعلونه؟»

«هذه هي المشكلة.. لن تفهم أبدًا»

ثم تبادل النظرات مع الجالسين الذين تحاشوا التقاء العيون بمصطفى، وقال:
«لنقل إننا نلاحق الأفكار الجيدة.. الأفكار الصالحة للاستكمال، وفي هذه الشركة لدينا ألوف مؤلفة من البدايات الموفقة»

تساءل مصطفى:
«هل يعني هذا أنكم شركة إنتاج سينمائي؟»

«ليس بالضبط.. إننا نهدي للعالم الأفكار التي قتلها أصحابها قتلاً.. نحن نستكمل القصص ونضعها في مكانها اللائق على رفوف المكتبة. لو لاحظت لوجدت أن هناك ركنًا ناقصًا حيث يوجد اسم مصطفى في المكتبة. هذا هو المكان الذي كان بينتظر إبداعاتك.»

كان يشعر بأنه يحلم.. هذه هلوسة لا شك فيها…

«وكيف؟ كيف وجدتم قصصي؟ وكيف مسحتموها من على جهاز الحاسب؟»

«إنا لا نخضع لقوانين مادية.. نتعامل بالأفكار ويمكننا الدخول لأي مكان وأخذ أي شيء.. غير أن  هناك مشكلة..»

والتفت إلى أحد الجالسين ليكمل هو، فقال الرجل وهو شخص أصلع بدين يعرق بغزارة:
«فشل رجالنا في استكمال القصص.. لم يجدوا نهايات مناسبة، ومعنى هذا أن هناك أرواحًا معذبة تنتظر..»

«أرواحًا معذبة؟»

«نعم.. أبطال قصصك في وضع معلق.. القصة التي بلا نهاية تعذب أبطالها عذابًا لا يمكن وصفه».

أردف المدير:
«استكمال القصة يشبه دفن الميت.. خطوة إنسانية مهمة وتنهي الكثير من الصراعات والمشاكل.. إكرام الميت دفنه وإكرام القصة استكمالها!»

«وماذا تريدون مني؟»

قال المدير وهو يشعل سيجارًا:
«أن تجد لنا نهايات موفقة لبدايات قصصك!»

فتح مصطفى فمه ليعترض.. هو لا يذكر الأحداث، وهو لم يعتد قط العودة لقصة نبذها، لكنه فوجئ بالجالسين ينهضون بلا كلمة… فجأة وجد أنه يجلس وحيدًا إلى منضدة الاجتماعات، فقط قال له المدير وهو ينصرف:
«تذكر أنك ستبقى معنا لفترة إلى أن تنهي القصص!!»

وفجأة شعر مصطفى بأن معالم القاعة تتغير.. تذوب.. كأنه من تأثيرات الخدع السينمائية المعروفة بالكروما.  لقد صار يقف في ظلام الليل وسط الرمال..

هناك صخب وصوت طبول من بعيد، وهناك شباب يرقص على مرمى النظر.. هناك مشاعل متناثرة على الشط تلقي بدوائر من الضوء الذهبي. عندما دقق النظر رأى أنه يرى شابًا وفتاة. الفتاة تلبس ما يشبه ثوب بحر لكنها تلف إزارًا حول نصفها الأسفل..

قال له الشاب:
«أنت أتيت في الوقت المناسب.. يجب أن تفعل شيئًا!.. سلمى توشك على التجرد من ثيابها..»

أصيب مصطفى بالذهول. هو يعرف هذين ويذكر هذا الموقف الذي لم يستطع أن يستكمله. سلمى ستؤدي رقصة شهوانية مقابل أن تطلب من الشاب شيئًا.. ما هو هذا الشيء؟

كانت الفتاة تواصل الرقص وتتخلى عن قطعة من ثيابها في كل مرة، بينما د. عدنان مذهول يرتجف.. كان أقرب للرعب منه إلى الإثارة..

مال عليه مصطفى هامسًا:
«أنت لم تعط أي وعد.. لست مطالبًا بشيء.. عندما تنتهي هذه الفقرة الاستعراضية يمكنك أن ترحل بعد ما تكون قد أشبعت عينيك!!»

«وما الذي ستطلبه هي؟»

«لا أعرف.. لكنه بالتأكيد شيء قاس أو محرم أو غير قانوني.. هذه هي الأشياء التي تستأهل هذا الثمن.. لن تطلب منك أن تتزوجها.. أنصحك ان ترحل قبل موعد دفع الثمن»

همس د. عدنان في ضيق:
«لربما معك حق، لكن هذه ليست طريقة محببة لسرد القصص. إن هذا يحبط القارئ كثيرًا»

«لكنه حل لا بأس به.. سوف تفرغ هي من عرضها الشائق، هنا توجه لها عبارة شكر، وتعود ببساطة لتنضم إلى رفاقك… هذه قصة مسلية.. المقلب الذي شربته فتاة حاولت أن تكون سالومي.. سوف يعلمها هذا أن أحدًا لا يدفع ثمن شيء حصل عليه فعلاً.. في المرة القادمة عليها أن تحصل على مطلبها قبل أن ترقص»

ولم ينتظر الباقي.. ترك عدنان يقف في بلاهة يراقب عرض الاستربتيز، ومشي وسط الرمال مبتعدًا… خطر له أن ينظر للخلف، لكن لماذا؟ سلمى ولدت من أفكاره وليس فيها شيء جديد..

مشي وسط الرمال لفترة ثم رأى أمامه طريقًا مظلمًا مقفرًا..

كشافات سيارة واقفة هناك..

ثم رأى سيارة أخرى تقف على بعد خطوات منها…

عندما اقترب أكثر أدرك أن هناك سيارة خالية وأن هناك رجلاً يقف في حيرة وهو يحمل (جركن) كبيرًا وينظر حوله.. كان هذا هو راكب السيارة الثانية..

التقت عيناه في ضوء الكشاف بالرجل، فقال له في رعب:
«لا أجد رأفت صديقي.. لقد جلبت له البنزين كما طلب مني»

بدأ مصطفى يفهم..

سأل الرجل في حيرة:
«أنت تدعى ما.. ما..»

«مازن.. أنا محام.. اتصل بي يطلب أن أوافيه هنا وشرح لي مكانه»

ثم استرخى ليستند إلى غطاء السيارة الواقفة وقال:
«كيف تنوي أن تنهي هذه القصة؟»

يُتبع