قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Saturday, June 29, 2024

يمكنني بسهولة


يمكنني بسهولة أن أرى المشهد.. هناك قرب مدينة (.......) مدخل قرية على اليمين.. هناك طريق ترابي غير ممهد، وهو يمر أولا بقنطرة صغيرة ثم طريق وعر للغاية.. هناك طاحونة قديمة مهجورة يقعي جوارها كلب أجرب مريض.. ثم ذلك المدخل الضيق بين بيتين من الطين الجاف.

Gemini

هناك يمكنك أن ترى الجثة وقد تمت تغطيتها بالقش، لكن الريح سوف تذروه قريبا جدا.. لن يطول الأمر قبل أن تنكشف للعيون، وحتى لو لم يحدث هذا فلسوف تجدها الذئاب أو الكلاب الضالة.

يمكنني بسهولة أن أرى هذا كله.

ها هي ذي مدام (عفاف) تنظر إلى منتظرة ما سأقول.. ها هو ذا أخوها الأستاذ (مصطفى) ينتظر ما سأراه.. إنهما متوتران يشربان الشاي لكنني أعرف أنهما يتعذبان في ابتلاعه كأنه حمض الهيدروكلوريك المركز.. لهذا يضعان الكوبين جانبا فلا يرفعانهما إلا كلما ألحت أمي.

لقد كان يوما عاديا وفي المساء اتصل بي النقيب (سمير البنا).. إذن هم في حاجة إلى حاستي في مهمة جديدة.. قال لي إنهما قادمان.

 قلت في عصبية: "أنا أحب مساعدة الناس.. لكني أكره أن أعامل كعرافة أو واحدة من المشعوذين الذين نراهم في السينما.. هناك كنز مدفون تحت المقبرة ونريد عونك كي نجده، ولك 10% من قيمته.. إلخ".

قال في لهجة أقرب للتوسل: "أعتقد أن هذا العرض سيكون رائعا، لكن للأسف أنا لا أعد بشيء سوى الثواب ومتعة أن تكوني مفيدة.. فعلا نحن بحاجة إلى هذا اللقاء.. أرجوك".

هكذا يتوتر كل شيء في البيت.. تسرع أمي بتنظيف الصالون والمدخل وترسل أخي لشراء بعض المياه الغازية والجاتوه. لا أحد يزورنا تقريبا أثناء سفر أبي، لذا تغدو هذه الزيارات مزعجة فعلا.

لكننا شعرنا بالراحة والهدوء عندما ظهر الضيفان.. السيدة محجبة وقور يبدو القلق على وجهها بشكل يدفع للشفقة، والرجل يشبهها تماما.. مستحيل أن يكون زوجها بل هو غالبا أخوها.

صافحتها وقبلتها على خدها من دون سابق معرفة، لكنني شعرت فعلا بحنان عارم يغمرني نحوها.

لحظة تقبيلها رأيت المشهد بوضوح تام: جثة مهشمة الرأس ملقاة في مكان مترب وفوقها كومة من القش.. لا أعرف جثة من ولا سبب رؤيتي لها، لكن الأمر اتضح من اللحظة الأولى.. هذه الجثة هي ما تريد المرأة السؤال عنه.

لكن هذا لا يدل على شيء.. إن موهبتي غامضة تتصرف بطرق عجيبة.. مثلا قد تريد المرأة السؤال عن شخص ما فتكون هذه الصورة الشنيعة هي الإجابة.. قد تكون هذه المرأة تحمل الصورة البشعة في عقلها الباطن كأحد مخاوفها.. قد تكون المرأة رأت هذا المشهد فعلا.. أي إن موهبتي العجيبة هذه تتراوح بين قراءة الأفكار والاستبصار والحدس.. فإذا أضفنا لهذا قدرا لا بأس به من التلفيق من خيالي الخاص، لأمكنك فهم الحيرة التي أنا فيها.. لو كانت الأمور واضحة بمعنى أن أقرر قراءة أفكار السيدة فأقرؤها، لكانت الحياة سهلة جدا، ولأمكنني أن أحكم العالم!

قالت لي وهي تجلس وتخرج منديلا في حال سيئة واضح أنها مسحت به أنفها ألف مرة: "زوجي.. (أحمد المهندس).. شركة استثمارية.. يقوم بهذا كثيرا جدا.. حقيبة مليئة بالمال يسافر بها.. لكنه لم يعد هذه المرة.. يوم.. يومان.. الشرطة تبحث.. لا أثر له ولا لسيارته.."

يتدخل الأخ: "الكل يتوقع ما حدث.. لكن لا أحد يجرؤ على قوله".

تنظر لي الزوجة وتقول في رفق: "خلال أسبوع جربنا كل طريقة بعرفها العلم".

"ثم خطر لنا أن نجرب طرقا أخرى".

أنا إذن طريقة أخرى لا يقرها العلم! لا أختلف كثيرا عن الشيخ (عطوة) نصاب القرية الذي يحرق البخور وينادي (شمهورش) طيلة الوقت.. هذا يثير غيظي.. على قدر علمي أنا ظاهرة علمية جدا لكنها لم تدرس بشكل كاف.. لا يوجد مجال هنا للسحرة والمشعوذين.

تمسك الزوجة بيدي في ضراعة.

أمي قد بدأت تعتاد هذه الأمور وتفهمها.. هي لا تصدق حرفا من ذلك، لكنها تعرف أن رجل شرطة يأتيني من وقت لآخر طالبا النصح.. صار هذا نمطا معتادا في حياتي.

أنظر للزوجة طويلا..

يمكنني بسهولة أن أرى الدم.. أرى خيط الدم الطويل الذي سال أثناء نقل الجثة.. يمكننى سماع صوت الذباب.. فقط لا أستطيع معرفة اسم البلدة التي تمت المأساة جوارها.. لا أعرف أين.. رأيت الجثة ومكان التخلص منها، لكني لا أعرف أين يحدث هذا.

سيدتي.. أنا تلقيت الإجابة التي تريدين.. أعرفها تماما.. لكني لن أخبرك بحرف منها.

تقول لي الزوجة دامعة: "أرجوك.. ركزي تفكيرك.. ماذا حدث لزوجي؟ قالوا لنا إنك تستطيعين لو لمست شيئا من أشيائه أو أطبقت يدك على يدي.. أرجوك"

يقول أخوها وهو يدس يده في جيبه: "هذه ساعته وهذا هاتف محمول يستعمله أحيانا.. لربما لو لمست هذه الأشياء لاستطعت أن.."

ألمس الهاتف والساعة.. أبتلع ريقي..

يمكنني بسهولة أن أرى جثة مهشمة الرأس.. في هذه اللحظة بالذات هناك كلب أجرب جائع شرس المنظر يقترب.. ينبش وسط القش..

يمكنني بسهولة أن أرى السيارة.. سيارة زرقاء اللون تقف بين الأشجار الكثيفة في عزبة ما.. الأبواب مفتوحة وقد غطاها التراب تماما.. هناك جرار يتحرك من بعيد.. أسمع هدير محركاته.

لكنني لن أقول.. لن أتكلم.

تسألني الزوجة في إلحاح: "هيه؟ آنسة هند.. هل رأيت شيئا؟"

أقول في حذر: "هذه الأمور لا تتضح بهذه السهولة.. أرجو أن تعطيني فترة كافية للتأمل.. لا يتعلق الأمر بزر أضغط عليه فأرى".

لكن يمكنني بسهولة أن أرى الكلب يزيح القش عن الوجه.. أرى الوجه المشوه جاحظ العينين.. هذا رجل في الخمسين من العمر.. له شارب كث.. الكلب يقترب.. يفتح شدقيه.

إنه...

كيف لو عرفت الزوجة ما يدور في هذه اللحظة بالذات؟ سوف أصمت.. نعم.. لن يفيدها أن تعرف أية رؤى مريعة تتلاعب في خيالي الآن.

يمكنني بسهولة أن أرى مدخل الطريق الترابي.. لا يمكن أن يهتدي له رجال الشرطة، لأن هناك مثله مئات في كل قرية بمصر.. لا توجد علامات مميزة.

أركز تفكيري أكثر.. السيارة الواقفة مفتوحة الباب.. لماذا لا يراها صاحب الجرار؟ ألم تثر فضوله؟ إلا لو كان يعرف.. يعرف سبب وجودها هنا.

هناك اسم يتردد في ذهني بلا توقف.. (الوحدة المحلية بكفر الدنانير). هذا هو المكان.

هذه المرة فتحت فمي.. قلت: "كفر الدنانير.. سيارته هناك".

هنا نظرت لي الزوجة في ذهول ثم تبادلت النظر مع أخيها.. احمر وجهها وقالت: "كفر الدنانير؟ هذه قريته قرب الزقازيق.. عزبة أسرته هناك.. لماذا يعتدي عليه شخص ويأخذ سيارته ليخفيها في قريته بالذات؟"

نظر لي أخوها في دهشة.. هل أنا أخرف؟ لكن من أين لي بمعرفة اسم القرية؟ بالفعل أنا متأكدة.. لقد سأل رجال الشرطة عنه هناك لكنهم بالطبع لم يجروا بحثا مدققا.. لو حدث شيء للزوج فآخر مكان يخفي فيه المعتدون سيارته هو قريته.. هذا شيء غريب لكنه حقيقي.

هنا خطرت لي فكرة.. قلت للزوجة: "هل معك صورة لزوجك؟"

"طبعا".

ووضعت كوب الشاي المسموم لتبحث في حقيبتها، ثم تناولني صورة صغيرة.. تأملتها فرأيت رجلا وسيما حليق الوجه.. لا علاقة له بالوجه الذي يمكنني بسهولة أن أراه تحت القش.

أمسك بالصورة وأحاول التركيز.. أكثر فأكثر..

يمكنني بسهولة أن أرى مكانا واسعا يجلس فيه ناس.. كلهم قلقون.. يمكنني بسهولة أن أسمع صوتا أنثويا أنيقا يتكلم بالإنجليزية.. أسمع صوت محركات.. هذا مطار.. لا شك في هذا.

أنهض كالملسوعة.. أجري بسرعة لأرفع سماعة الهاتف بينما الضيفان ينظران لي بدهشة.

أطلب رقم النقيب (سمير البنا).. يسألني في مرح عما إذا كنت أقضي أسوأ ساعات حياتي، لكني لا أبادله المرح.

أقول له في عصبية أن يتصل بالمطار حالا: "الزوج المختفي.. (أحمد المهندس) في المطار الآن.. سوف يغادر البلاد.. يجب أن تمنعوه!"

"هل تعنين أنه حي؟".

"حي وقاتل! لقد قرر أن يختفي ويسرق المال الذي كان في الحقيبة، وقد تم هذا بمساعدة شريك.. شريك اختلف معه غالبا، فهشم جمجمته وأخفى جثته في مكان قريب جدا من قريته (كفر الدنانير).. يمكنني أن آخذك هناك.. أعرف المدخل الذي يقودنا للجثة والتي أوشكت الكلاب على تدمير معالمها.. أما السيارة فتركها بين الأشجار في العزبة حيث يصعب أن يجدها أحد. بالطبع نقد الخولي مالا كي يتناسى وجودها!"

ثم صحت في عصبية: "لكن لماذا أضيع الوقت بالشرح؟؟ اتصل بالمطار حالا قبل قوات الأوان.. أرسل أحدهم بصورته لأنه قد يحمل جواز سفر باسم مستعار.. فقط أعرف يقينا أن حقيبته محشوة بالمال".

"حاضر.. حاضر!"

ووضعت السماعة واستدرت للزوجة وأخيها.. لقد تجمدا مذهولين عاجزين عن الكلام.. لكنهما سمعا كل شيء.. يمكنني بسهولة أن أعرف أنني محقة.. يمكنني بسهولة أن أقود الشرطة لموضع الجثة، لكني لا أقدر بأية وسيلة على إزالة هذه الصدمة القاسية التي تلقتها الزوجة المخلصة.. زوجها لص.. وقاتل.. وخائن.. ونذل.. ولو لم تأت لي الليلة بالذات لهرب للخارج لينعم بحياة جديدة تاركا زوجته ترثى نبله وشجاعته ورقته.. وتحمل لقب (أرملة).

إن الحقيقة قاسية.. لكنها أكثر رحمة من الحياة مع الخداع والأوهام. يمكنني بسهولة أن أفهم هذا، لكن الزوجة لن تفهمه إلا بمرور الزمن.