قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Sunday, June 30, 2024

الدهولة

الدستور - 28 مايو 2009

العام 1975.. ليلة الامتحان النهائي في المواد الاجتماعية للصف الثالث الإعدادي - وهو الاسم القديم للجغرافيا والتاريخ - وكان الطقس حارًا والعرق يغمر كل شيء، والساعة تقترب من الثامنة مساء. جلست إلى مكتبي ممسكًا بكتاب التاريخ الكئيب ذي الغلاف الشبيه بورق اللحم، والصفحات المكتوبة على ورق نشاف. هذا الكتاب المرعب الذي أنذرنا أستاذ المواد الاجتماعية (عبد الفتاح عواد) أنه طويل جدًا ومرهق جدًا.. وقال قولته الشهيرة: «مش عاوز نضيع وقتنا في أسئلة خايبة.. مثلًا واحد فاضي يسألني: كان محمد علي يلعب بالبيضة والحجر.. يعني إيه البيضة ويعني إيه الحجر؟»

ما أذكره هو أنني درست المنهج جيدًا، وبرغم أن (محمد علي) لعب بالبيضة والحجر كثيرًا جدًا، فإنني ابتلعت لساني ولم أسأل عن معنى هذا. كنت أتقي شر هذه الليلة.. أما اليوم وأنا جالس إلى مكتبي فقد وجدت أن ما أعرفه في المواد الاجتماعية صفر.. لقد تبخر كل شيء.. مليون تاريخ ومساحة ونهر وسكة حديدية ونصوص معاهدة.. كلها ضاعت ولكن كيف ضاعت؟ لست أدري.

Gemini

نهضت إلى الفراش وحاولت أن أتذكر شيئًا وأنا في وضع أفقي أو مقلوب.. لا جدوى.. لا أعرف كيف اندفعت الدموع إلى عيني ولا كيف رحت أنهنه! ولا كيف سمعني أبي يرحمه الله فقطع صلاته وهرع مذعورًا يفهم ما حدث. عندها قلت له بوضوح تام إنني لن أذهب للامتحان غدًا لأن الأمر منته. أغلق باب الحجرة علينا وأحضر كتبي.. ولا أفهم المعجزة التي قام بها عندما راجع لي المنهج كله قبل منتصف الليل، ثم طلب مني أن أنام.. في اليوم التالي عرفت خاصية عجيبة عن المخ البشري عرفها فرويد منذ زمن، هي أنه لا شيء يختفي في العقل الباطن. بشكل ما وبسحر ما تحرك القلم وحده ليكتب أجوبة صحيحة.. وبشكل ما حصلت علي درجة ممتازة.

هل صرت بارعًا في الجغرافيا والتاريخ؟ بالطبع لا.. لم يبق إلا ما قرر عقلي أنه يستحق البقاء. بالتأكيد طارت معلومات مثل نوع النباتات التي تنمو في حوض سانت لورانس.. اسم الجبال في هضبة أستراليا الغربية.. لماذا يكثر السكان في نيوساوث ويلز؟ العام الذي تكون فيه اتحاد الكومونولث الأسترالي.. نتائج قبول حكومة عبد الخالق ثروت لتصريح 28 فبراير.. حشائش السافانا التي تنمو في هضبة جيانا والبرازيل.. مصطفي كامل أنشأ الحزب الوطني عام 1907.. أعلن السلطان عصيان عرابي عام 1882.. لورد ملنر جاء لمصر عام 1919.

كل هذا تبخر.. لا شك أنه قابل للظهور للسطح بتقنيات مثل الصدمات الكهربية أو التنويم المغناطيسي، لكننا لسنا بصدد تذكر رقم حسابي في مصارف سويسرا طبعًا.

عادت هذه الليلة السوداء لذهني بقوة، عندما كان ابني في ليلة امتحان الدراسات للصف الثالث الإعدادي.

دخلت غرفته لأجده محتقن الوجه موشكًا علي البكاء، يجلس على الأرض وسط عشرات الأوراق والكتب المبعثرة.. في عينيه نظرة ذهول وذعر وخواء وضياع وهو يقول: «مش فاكر حاجة خالص.. كله دخل في بعضه!»

بدا لي الموقف مألوفًا.. 34 سنة تفصل بين التاريخين.. تحول الأستاذ إلى مستر وتحولت المواد الاجتماعية إلى دراسات.. لكنه يجلس الجلسة ذاتها.. مطالبًا بأن يحشر كل هذه الأرقام والتواريخ في عقله الصغير المتعطش للكون وإلا خربوا بيته.

لا أعرف كيف مرت الليلة السوداء، لكني عرفت فارقًا مهمًا بين آباء الأمس وآباء اليوم: آباء اليوم ليسوا متفانين إلى حد قضاء الليل كله يشرحون الجغرافيا لأولادهم.. لكني على الأقل حكيت له قصتي، وقلت له إنه سيتذكر كل شيء في الصباح بمعجزة ما.

عاد من الامتحان سعيدًا.. هناك أخطاء بسيطة لكنه راض بصفة عامة، وبالطبع نسي كل شيء عن أي حرف في تلك المادة.. لقد تحمل بحمل ثقيل من التواريخ والمساحات والأرقام والنشاط السكاني وسهول الاستبس والتايجا.. وهوب! ألقى بحمله الثقيل على الورقة ولم يعد يذكر منه أي شيء.

هناك مزية مهمة في ابني، هي أنه ينتهي من الامتحان فيوشك أن يستحم ليتخلص من وزر ما كان يلوثه من معلومات.. أحيانًا أتخيله ذاهبًا حافي القدمين إلى الفاتيكان، حاملاً شمعة ثقيلة وفي عنقه حبل من ليف، ليطلب الغفران على خطيئة ما كان يعرفه من معلومات. ولكم من مرة أقول له لفظة فرنسية بعد انتهاء امتحان الفرنسية مثلاً فيقول في خفة: «ما خلاص بقى!»

المقارنة بين ليلتي الامتحان تقول بوضوح إننا في مشكلة.. كارثة.. على مدى 34 سنة لم يتغير شيء علي الإطلاق في الطريقة التعليمية وأسلوب التلقين. فقط ازدادت المعلومات أكثر، وأضيف لها ما يلزم للنفاق مثل الضربة الجوية الأولى في حرب أكتوبر، والتطبيع و.. و.. في العلوم مثلًا تمدد المنهج ليشمل الإيدز والتهاب الكبد الفيروسي.. يعني صار الطالب مجبرًا على حفظ 5678 صفحة بعدما كان مطالبًا بأقل من ذلك في زمني. لكن العقلية التي ترسم هذا كله واحدة لم تتغير. الطفل يجب أن يدخل لجنة الامتحان وقد تحول إلى دائرة معارف حية.. لا يهم ما يبقى بعد ذلك.. المهم أن يثبت أنه حفظ ألفية ابن مالك بالكامل. والمشكلة أن البحث عن المعلومة في عصر الإنترنت لم يعد يستغرق أكثر من الوقت اللازم لضرب بعض المفاتيح على الكمبيوتر. لم يعد هناك مبرر لكل هذا التحميل الذي لا جدوى منه. هناك فيلم منتشر علي شبكة الإنترنت لصحفي في جريدة (.......) يقابله مذيع في الشارع، فيخبره الصحفي في ألاطة بمدى أهمية الثقافة لمن يمارس مهنته، هنا يسأله المذيع سؤالًا بسيطًا: ما ألوان العلم المصري؟ سوف تلطم وأنت ترى الرجل عاجزًا تمامًا عن تذكر ألوان علم بلده.

هذا رجل مر بكل مراحل التعليم، ويعمل في مهنة تحتاج إلى سعة العلم كما قال، وبرغم هذا لم يستعمل عينيه قط.. هذه ليست ثقافة لكنها فن استعمال العينين، وهو فن لا يعلمونه في المدارس.

يمر من في السلك الجامعي بدورات إجبارية لتنمية قدرات أعضاء هيئة التدريس، وهي غالبًا تدور حول تصميم المناهج أو تقويم الأداء للطلاب.. إلخ. وقد حضرت بعض هذه الدورات التي يقدم أغلبها عدد من أساتذة المناهج وطرق التدريس بكليات التربية، وأشهد أمام الله أنني قابلت أفضل العقول المرتبة والمتمتعة بكل مزايا التفكير العلمي، والملمة بكل جديد في عالم التربية في العالم كله. إن تربية العقول عمل خطير.. والأخطر أن تربي من يربي هذه العقول. في مقال للدكتور (أيمن الجندي) يقول ما معناه: «مشكلة مصر هي أن القادرين على الحلم عاجزون عن الفعل، بينما القادرون على الفعل عاجزون عن الحلم». وهي جملة تلخص كل شيء.. هؤلاء قادرون فعلًا على أن يحققوا ثورة في التعليم، لو تم إعطاؤهم سلطة تنفيذية ما.. وبالتأكيد لن نرى معهم ذلك التخبط في السنة السادسة الابتدائية والثانوية العامة ووباء الدروس وكل هذا التحميل على عقول الصبية بلا جدوى من أي نوع. لماذا لا تمنحونهم السلطة بدلًا من أن يصيروا مجرد فلاسفة أو أنبياء يبشرون بمبادئهم في قاعات الدروس المغلقة؟ لماذا يشعرون جميعًا بهذه المرارة وهم يجدون أن أحدًا لا ينتفع بما لديهم من علم غزير؟

معظم الناس يقولون: إن هذا مقصود وسياسة متعمدة كي يبقى التعليم في مصر في الحضيض للأبد، أما أنا فأرى أن نظرية المؤامرة هذه تفترض عبقرية تخطيط لا وجود لها.. أعتقد أن معظم ما يحدث في مصر يندرج تحت عنوان بسيط بليغ جدًا هو (الدهولة).