قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Tuesday, January 20, 2015

تحفظ



قرأت مقالاً للساخر الجميل أسامة غريب، يحكي عن تجربة مر بها عندما صدر كتابه الأول. قرر أن يكون لطيفًا ويرسل الكتاب لكل قارئ يطلبه ولا يقدر على شرائه. بالفعل كانت خطابات عديدة تصله فكان يذهب لمكتب البريد كي يشحن كتابه بماله الخاص لهذه العناوين. ثم بدأ تجربة أخرى هي أنه كان يسلم الكتاب بنفسه لبعض القراء في البيوت. لكن استجابة القراء كانت غريبة. هناك أم أخذت منه الكتاب لأن ابنها ليس في الدار، ولم يتصل به الابن بعدها ليشكره - وهو كل ما أراده الكاتب - وهناك قراء أخذوا منه الكتاب دون كلمة واحدة. هناك قارئ سأله في شك عن سبب هذا العمل المريب ومبرراته. هل هو يحاول أن يكون ظريفًا؟ هل يحاول إقناع نفسه أنه متواضع كريم النفس؟

الخلاصة أن التجربة كانت قاسية وتعلم منها أشياء كثيرة، لكن أهم شيء تعلمه هو أن تذويب المسافة بين القارئ والكاتب يلغي حاجز الإيهام، ويجعل الكاتب شخصًا عاديًا بينما كان القارئ البعيد يعتبره تولستوي أو مارك توين. وهذا درس يعرفه كل الأطباء منذ زمن. افحص المريض مجانًا وهش في وجهه واكتب له العلاج في ورقة، ولسوف يمزق الورقة بمجرد رحيلك. لن يسعده سوى الذهاب لطبيب مغرور يدفع له ثروة حتى يتنازل ويفحصه. وفي النهاية قد يكتب له الطبيب العلاج ذاته، ويشخط فيه إذا حاول الفهم: 
ـ"انت أخذت وقتك. اتفضل!"
لكن المريض سيهرع ليبتاع الدواء ولربما استدان من أجل ثمنه. 

مقال أسامة غريب مؤثر وصادق جدًا. هناك قصة قصيرة لدستويفسكي تحكي عن جنرال ثمل عائد لبيته ليلاً. هنا يمر بحفل زفاف ويعرف أن أحد مرءوسيه يتزوج هذه الليلة. المرءوس شاب مذعور نحيل فقير جدًا. يقرر الجنرال أن يكون لطيفًا ويحضر الزفاف. والنتيجة هي أنه يفسد كل شيء لأنه يكهرب جو الحفل، والعريس يصاب بهلع تام. الجنرال يواصل احتساء الخمر فيسكر بشدة ويسيل منه اللعاب على مفرش مائدة الطعام، ويتعرض للإهانة، ثم يسقط وقد فقد وعيه. يبيت ليلته في فراش العروسين اللذين ناما في المخزن. والأدهى أنه أصيب بإسهال شديد من الثمل، لذا راحت أم العريس الباسلة تبدل سراويله وملاءات السرير كأنه طفل. في الصباح يستيقظ فيعود لبيته وقد جلله العار وأفسد ليلة زفاف المرءوس بهذه اللمسة السخيفة. لا أذكر نهاية القصة لكن أعتقد أنه فصل الموظف من العمل عقابًا لنفسه على خرقها. قصة كتبها قلم دستويفسكي الحاد وقدرته المذهلة على تشريح النفس البشرية، ووصف العواطف التي يستحيل أن يصفها سواه.

ليست لي تجارب كثيرة في هذا الموضوع. علاقاتي طيبة مع القراء لكنها لا تتعمق أكثر من اللازم، وهذا عائد لطبيعتي الخجول المتحفظة نوعًا. غير أن المرء من حين لآخر يتلقى صفعة على كبريائه تجعله يتمنى لو كان أكثر حذرًا.

منذ عام أرسلت لي تلك الصديقة المراهقة رقم هاتفها. قالت إن عيد ميلادها غدًا وهي تريد أن أقول لها هاتفيًا كل عام وأنت بخير. تأثرت من هذا الطلب جدًا، وفي الموعد المحدد اتصلت بها. ردت علي سيدة متشككة لتسألني بخشونة من أنت؟ واضح أنها الأم. لماذا تسأل عن ابنتي؟
ـ"أنا فلان".
فلان من؟ لم تسمع حرفًا عني من قبل. صوتها يزداد خشونة. أقول: ـ"أنا فلان الكاتب"
كاتب ماذا؟ أي أنك تكتب؟ الشك يتزايد. أنا أعاكس ابنتها أو أعبث بها. في الحالين أنا وغد. بدأ العرق يتصبب مني وأنا أشرح لها القصة منذ البداية. عندما تشرح هذه الأمور تبدو سخيفًا جدًا. عندما انتهت المكالمة اللعينة أغلقت الهاتف وأقسمت ألا أكون ودودًا بعد اليوم. اتصلت بي الفتاة مرارًا بعد ذلك فلم أرد.

فتاة أخرى أكثر نضجًا وتعمل في منصب مهم، اتصلت بي ذات مرة وقالت إنها حصلت على رقم هاتفي بصعوبة. قالت إنها تحب كتاباتي جدًا، ونشأت بيننا صداقة عبر الهاتف. أعتقد أنها كانت المتصلة في كل مرة. طبعًا أنت تثق بي وتعرف أن الأمر لم يزد على صداقة متحفظة جدًا. ولو لم يكن كذلك لما حكيت لك هذه القصة. هل تجد مبررًا يجعلها تتصل بي ذات مرة وهي تبكي لتقول: 
ـ"خطيبي متضايق جدًا، وهو يطلب منك مسح رقم هاتفي وعدم الاتصال بي ثانية!. سلام. كليك!"
ظللت رافعًا حاجبي نصف ساعة، وأنا أتحسس موضع الصفعة الرمزية على خدي. كل ما فعلته من ذنب هو أنني كنت ودودًا. لا أكثر ولا أقل. 
بعد أعوام قابلتني، وقالت إنها تريد أن أتعامل معهم في مجال عملها الجديد!. نظرت لها في صمت، ثم قلت لها إنني صنفت إهانتها ضمن أسوأ عشر إهانات تلقيتها في حياتي. من فضلك أرجو أن تمسحي رقم هاتفي ولا تتصلي أبدًا.