منذ أسابيع تعطل مترو المرج حلوان في محطة طرة البلد، لأن مواطنًا مستهترًا قام بشد فرملة الطوارئ. الفكرة هنا أن باب المترو انغلق علي قدم زوجته الحامل - زوجة الرجل لا المترو طبعًا - وبدأ يتحرك وجسدها يتدلي من المترو، مما دفع الرجل إلي هذه المخالفة الخطيرة. الخبر يؤكد في فخر أن الشرطة قبضت علي الرجل وتم تحويله للنيابة التي لم تعطه وسامًا لسرعة بديهته وحسن تصرفه، ولكنها اتهمته باستعمال الفرملة في غير حالة الخطر!. هذا ببساطة يعني أن الحكومة لا ترى خطرًا في أن تسقط أم وجنينها تحت عجلات المترو، فنحن تجاوزنا الثمانين مليونًا والعدد في الليمون .. فلتأخذنا مصيبة إذن. كل هذا جميل ومفهوم
أتكلم طبعًا باعتبار أن الخبر صحيح ونقل بأمانة. أحيانًا يتم نقل الخبر بطريقة تزيد الطين بلة، وإنني أتذكر خبرًا نشر منذ أعوام في صحيفة قومية؛ عن القبض علي اثنين من المتطرفين حاولا تكوين تنظيم سري، فقال المحرر، لا فض فوه بالحرف: «بالقبض على الرجلين تبين أنهما يأمران بالمعروف وينهيان عن المنكر، وتم تحويلهما للنيابة !». لو كنت مسئولاً حكوميًا لحولت المحرر العبقري للتحقيق لأنه أساء للنظام أكثر من ألف جريدة معارضة
نفترض إذن أن الخبر صحيح .. لكن السؤال الحقيقي هنا هو: ما الذي تعتبره الحكومة خطرًا فعلاً؟.. سقوط أم وجنينها تحت العجلات ليس خطرًا، فمتي يبدأ الخطر ليعرفه المواطن الصالح ؟ . وما نفع الفرملة إذن ؟.. أم هي عهدة تسلمتها الهيئة مع القطار الفرنسي ولم تجرؤ على نزعها؟
تعال نقرأ معًا أجزاء من خطاب كتبه لي «أ. ج» طالب الهندسة السكندري، ويحكي فيه عن موقف آخر لا تراه الحكومة خطرًا: مساء يوم الاثنين الموافق 30 نوفمبر 2009، اتجهت برفقة ثلاثة من أصدقائي لنستقل الترام من محطة الإبراهيمية للذهاب إلي سان استيفانو، واستقللنا العربة رقم 221 خط رقم واحد (باكوس) نحو الساعة التاسعة مساء
وبمجرد ركوبنا الترام لاحظنا وجود نحو 20 شابًا تتراوح أعمارهم بين 14 و19 سنة - من الذين لا يظهرون سوي في المواسم والأعياد ولا يفعلون أي شيء سوي قلقلة الأمن العام- يقومون باستمرار بقذف زجاج السيارات المركونة أو السائرة بالقرب من الترام بالحجارة متوسطة الحجم، وقاموا بكسر وتدمير زجاج ما يزيد علي 15 سيارة، ولم يحرك أحد ساكناً من ركاب العربة أو الكمساري الذي يظهر علي وجهه الجبن الشديد والذي كان مسئولاً عن العربة، ولم يحاول أحد منا أنا أو أصدقائي الاحتكاك بهم بسبب عددهم واحتمال وجود سلاح معهم
لكن اختلف الأمر عندما وجدنا أن بحوزتهم ألواحاً كبيرة من الخشب، يقومون بضرب المارة السائرين إلي جانب الترام بها من شبابيك وأبواب الترام أثناء سيرها، وقاموا بضرب الكثير من الناس بعنف، ومن ضمنهم كانت امرأة تسير قرب الترام وتحمل طفلها علي يديها
اتجهت إلي الكمساري بغيظ وسألته عن رقم العربة التي نستقلها وأخبرته أنني سأتصل بشرطة النجدة وأبلغهم بما يحدث، فأخذ يصرخ بكل ما أوتي من قوة لكي يصل كلامه إلي مسامع هؤلاء البلطجية «بلغ البوليس مش هيعملولك حاجة!!» ولم أعلم ما حكمته في هذا الصراخ سوى أنه لفت نظرهم لأنني قررت الاتصال بالشرطة !! كأننا فتحنا أبواب الجحيم، أخذوا يضربوننا بألواح الخشب المدججة بالمسامير ثم توقف الترام تماماً بين محطتي باكوس وصفر، ونزلوا منها جميعاً وأخذوا يقذفوننا بالحجارة، وجري كل من في العربة واختبأ تحت الكراسي لكي لا يصاب أحد، وأصيب صديقي في يده من أحد ألواح الخشب وكدنا نصاب في رؤوسنا بالحجارة أكثر من مرة لولا العناية الإلهية
ثم وقفوا جميعاً أمام الترام وامتنعوا عن التحرك إلا إذا نزلنا لهم، فوجئنا حينها بأغرب ردود الفعل، وجدنا السائق ترك مكانه في العربة الأولي (كنا مستقلين العربة الثالثة والأخيرة) ونزل وصعد إلي عربتنا، وأخذ يعنفنا ويصرخ فينا ويطالبنا بأن ننزل من العربة حالاً لكي يتمكن هو من التحرك، وإلا علي حد قوله، إن لم نفعل ذلك فإنهم «سيقومون بتكسير عربته تماماً»!!!ـ
فلننزل ونُقتل ولا يهمه سوى عربته!! وعندما رفضنا النزول حاول خداعنا بقوله إنه يريد منا أن ننزل لكي نركب معه في مقصورته حماية لنا، ونحن نعلم جيداً أنه لا يريد سوى التخلص منا ليهرب بالترام ويكمل طريقه
صرخ فيه جميع من بالعربة حينها، أن يتركنا وشأننا ويتحرك، وقتها كنت قد تركته يصرخ وقمت بالاتصال بشرطة النجدة، رد عليّ شخص ما لا أعلم إن كان بطيء الفهم أم أنه يدّعي الغباء، قمت بشرح الموقف ووصفه وقلت له مكان توقف العربة أكثر من 5 مرات وهو يعيد نفس أسئلته أكثر من مرة، فاضطررت لإنهاء المكالمة. أخيراً بدأت العربة بالتحرك. بعد انصرافهم وتحرك الترام اتجهنا وجميع الركاب إلي الكمساري وأخذنا في الصراخ أن هذه مسئوليتهم أن يوفروا الأمن للركاب، فقال لنا ما معناه أنهم طلبوا من الهيئة من قبل أن توفر أمنًا خاصًا بالهيئة أسوة بهيئة السكة الحديد لكنهم رفضوا الفكرة لتوفير النفقات، ولأن تلك الممارسات لا تحدث سوى في الأعياد والمواسم فقط ولا تستدعي الاهتمام نهائياً !!ـ
فقلت له ولماذا لا تحاول إبلاغ الشرطة؟ قال لي: «يا ابني الشرطة في أجازة كلهم دلوقتي، انت لما كلمتهم حد اهتم؟؟ أنا بقالي خمسة وعشرين سنة شغال علي الخط ده وكل مره بتحصل الحاجات دي ولا حد بيهتم، وأنا ماليش دعوة بالناس دي أنا عندي عيال!!ـ
هذا هو ما حدث معنا، في الأسكندرية في مصر، وليس في السودان، فهل سيهتم بنا أحد؟؟ أم أن الاهتمام كله من نصيب مطربينا وأعضاء الحزب الوطني الذين أهينوا في السودان بينما نحن في الأصل لم يكن لنا أي قيمة داخل بلدنا؟
بلطجة العيد المعروفة، والسلوك الجماعي العدواني الخارج علي القيود، وربما المخدرات كذلك .. كل هذا لا تراه الحكومة خطرًا
يوم 21 نوفمبر يحاول عامل بشركة أتوبيس غرب الدلتا الانتحار بالوثب من فوق برج التقوية، لأنه يتقاضي 170 جنيهًا بعد 13 عامًا من العمل، ولم يتحمل كبرياؤه أن يعجز عن شراء كيلو لحم لأسرته في عيد الأضحى. لم يتراجع إلا بعد وصول المحافظ لسماع شكواه. هذا الحظ الحسن لم يستمر حتي يوم 3 ديسمبر، حيث نعرف من الصحف أن ثلاثة شبان انتحروا في يوم واحد بسبب الفقر.. الأول عامل من دكرنس تزوج ولم يستطع أن يجد عملاً أو يستقل عن أسرته، وهكذا دخلت زوجته لتجده معلقًا بحبل. عاطل آخر ألقى بنفسه من الطابق الرابع في كفر الشيخ .. السبب ببساطة أن دخله 400 جنيه يدفع منها 300 جنيه إيجارًا لشقته. وفي الشرقية يفضل شاب ثالث - أكبر إخوته - أن يشنق نفسه لأن خطبته مهددة بالفسخ بعد فشله في العثور على شقة
كل هذا ليس خطرًا .. الأمور تحت السيطرة، ومن ضمن الأمور المطمئنة، كذلك لا ننسى قصة الطفلة مريم التي ترقد الآن في غيبوبة بسبب اللودر .. لا .. لم تقف أمام اللودر محاولة منعه من هدم منازل الفلسطينيين علي طريقة الأمريكية (راشيل كوري)، لكن اللودر اقتحم بيتها بلا إنذار، وهدم البيت علي رأسها، وهو بهذا يبرهن علي أن المصريين أشد كفاءة وحزمًا من الإسرائيليين (الخرعين) الذين يهددون بالهدم أولاً
إذن ما الخطر بالضبط ؟... وما الذي يجعل الدولة تهب في حزم لتهوى بقبضتها ؟.. أنا أسأل بأمانة لأنني مواطن صالح، أكره أن أزعج الدولة لسبب تافه. هل الخطر هو مائة شاب نحيل بنظارة يقفون علي سلالم نقابة الصحفيين ؟ أم هو البرادعي أم ماذا بالضبط؟