فى هذه الأيام، تلاحقنى بعناد مشاهد فيلم (سفر الرؤية الآن) تحفة المخرج الأمريكى فرانسيس فورد كوبولا، والذى أخرجه عن رواية (قلب الظلام) لجوزيف كونراد. قصة كونراد تدور فى أحراش أفريقيا أيام صيد العاج، والرحلة الرهيبة التى يقوم بها البطل عبر النهر للقاء كورتيز.. تاجر العاج غريب الأطوار الذى صار مزيجا من سفاح وتاجر عاج وفيلسوف وشاعر ونبى كاذب وإله أفريقى وثنى، والسبب هو أنه دعا لدين جديد هو (الرعب).. من الواضح تماما أن الرحلة فى النهر هى رحلة داخل نفوسنا ذاتها، وأن قلب الظلام هو أعماقنا. فى الفيلم الأمريكى تصير أفريقيا هى فيتنام، ويصير كورتيز ضابطا أمريكيا منشقا لعب دوره بامتياز مارلون براندو. يكون على الضابط الأمريكى الشاب الذى كلفته المخابرات باغتيال كورتيز أن يبحر عبر نهر الميكونج، فنشعر أن القارب يتوغل عبر دوائر جحيم دانتى ذاتها، ويعبرون الحدود إلى كمبوديا كأنهم يعبرون إلى عالم آخر. فلسفة كورتز هى العنف والرعب والمزيد منهما.. لابد للمرء أن ينقب فى روحه عن القسوة. الفيتكونج كما يقول قساة لهذا يربحون الحرب.. ذات مرة قامت القوات الأمريكية بتطعيم أطفال قرية ضد شلل الأطفال فجاء الفيتكونج بعدها وانتزعوا أذرع الأطفال!. علينا أن نكون مثلهم. فى مشهد النهاية الشنيع يتحول الضابط الأمريكى المكلف بقتل كورتيز إلى قاتل شيطانى كالذى تمناه الأخير. يدخل على كورتز فى مخدعه ليمزقه بسكين عملاقة يحملها. لحظة احتضار كورتز يهمس بالكلمة التى يعتبرها وصيته للعالم:
ـ«الرعب!!»
الرعب!... هذا الوحش النائم فى أعماقنا والذى يخرج بسهولة بالغة... يمكن القول إن كورتز حقق فلسفته بنجاح تام..
تذكرت هذا وأنا أسمع أنباء مصرع ثلاثين من أبنائنا الجنود فى سيناء ضمن عمليات الإرهاب الأسود، ومنذ متى نسمع عن مصرع ثلاثين شابا بهذه البساطة؟. تذكرته كذلك منذ عام ونيف وأنا أرى مشاهد الجرافات تزيح الجثث المكفنة فى رابعة بينما الناس يحاولون منعها، والفتاة التى اخترقت الرصاصة حلقها وهى تلتقط صورة، والشاب الذى سجلوا لحظات احتضاره بعد رصاصة اخترقت عينه. تذكرته وأنا أسترجع مشهد المتظاهر الذى يفتح سترته لجنود الشرطة فى الاسكندرية، فيطلقون عليه الرصاص كأنه كلب، وتذكرته وأنا أرى السيارات تدهم المتظاهرين كأنهم صراصير، وبالتأكيد تذكرته وأنا أرى ذلك الرجل الملتحى فى الأسكندرية يقذف من حالق فتيين مراهقين تحصنا فوق بناية عالية.....الرعب...
تذكرته وأنا أتذكر المصرى الذبيح المعلق بخطاف من رقبته فى قرية كترمايا اللبنانية، بينما القرية كلها تهلل وتلتقط الصور كأنه سمكة قرش ضخمة اصطادوها.
تذكرته وانا أسترجع مشاهد قتل القذافى منذ ثلاثة أعوام بالضبط، يوم 20 أكتوبر 2011.. الرجل المسن المذعور الغارق بالدماء، والذى ينهال عليه عدد من المقاتلين ضربا حتى الموت. قلت يومها أنه عمل قاس لكنه مفهوم، بالنظر إلى ما فعله القذافى فى شعبه طيلة أربعين عاما، وكيف دعا إلى فتح مخازن السلاح ليحرق الثوار. لكن المشهد كان شنيعا بلا شك. وجثته وجثة ابنه معروضتان لمن يتشفى ومن يلتقط الصور ومن يسخر منهما. الرعب... تذكرته وأنا أسترجع مشاهد شنق صدام حسين وهم يتشفون فيه ويصيحون: إلى جهنم !.. ثم يهتفون بحياة خصمه الشيعى ولا يسمحون له باستكمال نطق الشهادتين. تذكرته وأنا أتذكر جثتى ابنيه المعروضتين فى فخر لمصورى الفضائيات....الرعب...
رأيت فى الأعوام الأخيرة مشاهد ذبح تفوق فى عددها ما كان المواطن يراه أيام الحجاج بن يوسف الثقفى. كل قصص (فضرب عنقه) التى تزدحم بها كتب التاريخ تتكرر اليوم بشكل مكثف، بدءا من نيكولاس بيرج الذى ذبحه أبو مصعب الزرقاوى أمام الكاميرا فى العراق، وكانت هذه بداية موضة الذبح، حتى أن بعض المنتديات العربية كانت تدعو الضيوف: «تفضلوا... لدينا أفلام ذبح بشعة جدا». لا أتصور شعور الضحية المقيدة وهى جالسة تنتظر، حتى يشبع ابن الكلب الملثم الذى يحمل السكين موهبته فى الخطابة وإجادة نطق مخارج الحروف، وهى تعرف أن هذه اللحظات سوف تنتهى حتما بقطع رقبتها. لكن الأمور تطورت أكثر وظهرت داعش.. الآن صار الخطاب بإنجليزية بريطانية، وتقدمت الأساليب الإعلامية جدا، وعرفنا أن القاعدة كانت مجموعة من مرهفى الحس رقيقى القلب. ومع الوقت صار الإسلام بالنسبة للعالم الغربى معناه ذبح الأبرياء المقيدين، مهما قال الدعاة لهم إن هذا ليس الإسلام وإن هؤلاء خوارج.. إلخ، وهو ما يثير علامات استفهام هائلة حول داعش هذه.. من أين جاءت؟.. من يمولها؟.. كيف لا تقدر كل هذه القوى الدولية على محاربتها؟
هناك فيلم شنيع يظهر نساء عاريات مقيدات يتم ذبحهن ثم تمزيقهن بالفئوس على يد جنود ملثمين، وقيل إنهن نساء مسيحيات فى شمال العراق، لكن عندما تسمع الحوار تدرك أنه بالإسبانية، وأن هذه عصابة مكسيكية تنتقم من عصابة أخرى فيما يسمى (الكارتل أو الاتحاد الاحتكاري) للمخدرات. ليست داعش هى الوحيدة التى تذبح فى عالم اليوم..... الرعب...
وماذا عن الفتاة التى جردوها من الثياب وأحرقوها بالماء المغلى واغتصبوها فى قلب ميدان التحرير؟... الرعب...
هل جن العالم؟ منذ متى لم يعد للحياة البشرية قيمة؟. هل حدث انقلاب ضد التطور والتحضر؟ أم أن الإنسان كان بهذه القسوة طيلة الوقت، بينما الشعراء والفنانون يحاولون تجميل صورته؟. هل هى غضبة الجياع على المتخمين، أم الافتقار للعدل، حيث تغلق كل الأبواب فلا يبقى سوى باب العنف؟. القاعدة التى لا تفشل هى أن العنف لا يحلب إلا العنف. بعد الحادث الإرهابى المشئوم فى سيناء، قرأت تعليقات القراء التى تطالب بحرق كل مدن سيناء ثم تسكينها بخلق جديد، ومن يطالب بقتل كل الإخوان فى السجون بلا محاكمة من منطق (اضرب المربوط يخاف السايب). فى رواية (باب الخروج) لعز الدين شكرى أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية، نرى أحد الأبطال وهو أستاذ علوم سياسية بالجامعة الأمريكية اسمه عز الدين فكرى (!)، يصل للسلطة فيتحول إلى سفاح يؤمن بأن العنف والاستئصال الجراحى هما السبيل الوحيد لخروج البلاد من مأزقها، وبالطبع يفشل ويعدم لأن العنف لا يجلب إلا العنف، لكنه يترك فى نفسك علامات استفهام وأسئلة بلا جواب.. هل يمكن أن نكون كلنا ذات الشخص، وكلنا نحمل ذات العنف أمام أى شيء يعوق أهدافنا، لكننا نتوهم الرقة فى أنفسنا؟. هل كان كونراد عبقريا عندما قال إن قلب الظلام هو أعماقنا؟