"كيف تعلمت أن أكف عن القلق وأحب القنبلة الذرية!". يعرف محبو السينما أن هذا عنوان فيلم شهير جدًا لستانلى كوبريك، كان ينوى أن يجعله جادًا، ثم وجد أن الأفضل جعله أقرب للكوميديا السوداء. وفى اللقطة الأخيرة من الفيلم تلقى الطائرة بالقنبلة الذرية على الاتحاد السوفيتي، لكنها تنحشر فى جهاز القذف.. هنا يتطوع راعى البقر الأمريكى بركوبها كما فى سباقات الروديو وهو يلوح بقبعته ويهبط بها... هذا المشهد يلخص العسكرية الأمريكية ببلاغة.
فى 6 أغسطس عام 1945.. الساعة السابعة صباحًا.. حلقت الطائرة الأمريكية (إينولا جاي) فوق اليابان تحرسها طائرتان أخريان مهمتهما التصوير والحراسة. إينولا جاى طائرة بوينج يقودها الكولونيل تبيت، والاسم هو اسم السيدة والدته. الهدف بسيط جدًا وهو إلقاء أول قنبلة ذرية فى التاريخ على بلدة يابانية اسمها هيروشيما. لماذا هيروشيما؟.. لأنها ليست طوكيو ولا كيوتو..لا أحد يتحمل مسئولية تدمير طوكيو بقنبلة ذرية، لكن هيروشيما كبيرة إلى حد أنها ستكون كارثة، وصغيرة إلى حد أن الأمر يمكن أن يمر
أشياء كهذه يمكن ان تحدد مصائر آلاف البشر.. يكفى أن الولايات المتحدة كانت تنوى قصف مدينة (كوهورا) بعد هذا بثلاثة أيام، غير أن العواصف فى هذه المرة كانت تحيط بالساحل الياباني، وصارت الرؤية شبه مستحيلة، هكذا صارت الساعة التاسعة صباحاً والطيار عاجز عن معرفة أين هو ولا كيف يصل إلى (كوهورا).. اتصل بالقيادة فأمرته بأن يتجه إلى هدف ثان..(ناجازاكى Nagasaki).. هكذا نجت مدينة من الدمار فى اللحظة التى تقرر فيها مصير مدينة أخرى بهذه البساطة.. مات 80 ألفًا من أبنائها بضغطة زر واحدة
نعود إلى إينولا جاى التى تحلق نحو مهمتها.. فى الطائرة التى تقوم بالتصوير قال المصور لمن معه: "لاحظوا يا سادة أن هذه اللقطات تاريخية، وكل ما نقوله يتم تسجيله.. فحافظوا على لغتكم"
هذه أقذر مهمة فى التاريخ بالتأكيد، وهى نقطة التحول فى مسار الحروب للأبد. بعد قليل يعرف العالم معنى أن يضغط الطيار على زر فتتلاشى بلدة كاملة بمبانيها وبشرها وأطفالها وكلابها وقططها ومعابدها وحدائقها. سوف يموت فى اليوم نفسه 70 ألف يابانى وفى الأيام التالية سيموت عدد مماثل، لكن لا تنس أن 20 ألفًا فقط هم الجنود وسط هؤلاء!
تذكر كذلك أن اليابان كانت موشكة على الاستسلام، وأن الصبر كان سيؤدى لانتهاء الحرب..لكن الأمريكان كانوا يحقدون على اليابانيين ويكرهونهم فعلاً.. هذه نقطة. النقطة الثانية هى غريزة طبيعية فى الإنسان: لا يمكنه أن يصنع سلاحًا ولا يجربه.. بعد كفاح العلماء والتخطيط وكل هذا الإنفاق، وفريق العمل الذى قاده أوبنهايمر.. بعد هذا كله صار من الصعب ألا يستخدموا القنبلة.. هذا سيكون قاسيًا جدًا.. لابد من مبان متهاوية ولابد من جثث محترقة
هذا الكابوس الذى تحمله الطائرة هو بذرة صغيرة زرعها أينشتاين بنظرياته.. رعاها المجري زيلارد لتنمو بالتعاون مع الإيطالي العبقرى إنريكو فيرمي.. وفى النهاية تكفل أوبنهايمر بقيادة فريق العلماء فى مشروع مانهاتن بالغ السرية لتحقيق هذا الكابوس، وكان زيلارد يعتقد أن هتلر سيصل للقنبلة الذرية ويحكم العالم للأبد، لذا صمم على أن يصنعها للحلفاء أولاً. لما عرف أن هتلر لم ينتو صنع القنبلة أصلاُ اقترح أن يتم نسيان الفكرة، لكن الوحش الأمريكى كان قد شم رائحة الدم وصار من المستحيل منعه.
لم تكن (هيروشيما Hiroshima) قبل السادس من أغسطس مسرحاً للحرب المضطرمة والتى طالت كل مدن اليابان. لقد تساءل الناس مراراً عن سبب كون القنابل لم تهو على (هيروشيما) قط.. واعتقدوا أن مدينتهم محظوظة.. ومن سمعوا صفارات الإنذار فى هذا الصباح لم يولوها اهتماماً لأنهم اعتادوا أن تمر الطائرات الأمريكية فى سمائهم قاصدة أهدافاً أهم.. البعض رأى تلك الطائرة تحلق على ارتفاع عال.. البعض رآها تقذف شيئاً ثم ترتفع...لكنهم لم يعلقوا على ذلك أهمية ما... يمكن القول بدقة إن القنبلة سقطت فى المثلث الذى يتكون من مصرف (زديوتومو) وبناية (فوكوزايماي) وإدارة الغاز
ـ"اضرب!!" وفى طائرة التصوير همس أحد الجالسين وقد نسى الأوامر بتهذيب اللسان: "انظر إلى تلك العاهرة وهى تسقط!".. ما زال الفيلم موجودًا ويمكنك سماع العبارة بوضوح... لقد زالت الألوان عن كل الموجودات، والعالم صار بقعة ساطعة من اللون الأبيض حتى حسب الجميع أنهم اصيبوا بالعمى...لم تعد ثمة حدود ولا معالم لأى شيء..لقد صار العالم كله لا شيء أبيض...ومعه ساد الصمت.. لم يعد أحد يسمع أى شيء.
اللحظة التالية هى لحظة الحرارة..وفي خمسين ألف جسد من الأجساد التى لم تتفحم فوراً، تركت الحروق علامة سيطلق عليها فيما بعد اسم (مخالب الشيطان)
الآن بدأت مرحلة الأعاصير...أعاصير عنيفة تطير كل شيء.. تمزق الثياب.. تطير الأطفال فى الهواء.. تنتزع أعمدة النور واللافتات وتقلب السيارات.. ومعها جاء الغبار ليغطي كل شيء.. ثم انسحب الغبار.... وتغلف سماء المدينة سحابة سوداء ثقيلة.. كأنما هم جربوا النور التام والظلام التام فى ثوان.. وفى كلتا الحالتين هم لا يبصرون شيئاً
الآن انتهت المرحلة الثالثة..تنحت المؤثرات السابقة لتفسح المسرح للممثل المرهوب المخيف: النار.. اندلعت النيران تجتاح كل شيء بلا رحمة.. والغريب أنها اتخذت صورة القطار الذى يشق طريقه فى حماس وجرأة بين البيوت على الجانبين.. قطار يعرف كيف يدخل الأزقة، وكيف يدخل من النوافذ.. همس أحد الطيارين بكلمة ظلت محفوظة فى السجلات حتى اليوم وسمعها العالم كله: "يا إله السماوات!.. ما هذا الذى فعلناه ؟!!!!"
لم تترك لعنة هيروشيما وناجازاكى الطيارين فى سلام. بالمناسبة توفى آخر المشاركين فى المهمة هذا العام، وهو ملاح يدعى فانكيرك. تظاهر الطيارون برباطة الجأش والرضا عن النفس، وأنهم جنود نفذوا المطلوب منهم، لكن معظمهم أصيب باكتئاب شديد أو حرم من النوم
على سبيل المثال، الميجور (كلاودي) الشهير بقسوته وحبه للتدمير كان قائد سرب.. كان بارداً صلب الأعصاب حتى أطلق عليه أصدقاؤه اسم (وجه البوكر)، ثم رشح كى يكون فى طائرتي القنبلة الذرية. إذ عاد إلى وطنه (تكساس) بدا صموتاً أميل إلى الاكتئاب.. عندما تزوج كان يصرخ أثناء النوم: لا تجذب الرافعة!.. لا تجذب الرافعة!.. إن الأطفال يحترقون!. وكان ينهض فى منتصف الليل ليقول إنهم يريدونه فى (هيروشيما) ليحقق فيما أحدثته القنبلة من دمار.. نالت الزوجة الطلاق بينما ظلت حالته العقلية تتدهور.. فصل من القوات المسلحة ومنح معاشاً سخياً.. لكنه لم يلمسه قط.. فضل أن يسرق المتاجر بينما حسابه فى المصرف يتضخم.. كان يعتبر أن هذا المعاش هو ثمن أرواح أطفال (هيروشيما) و(ناجازاكي).. وقرر أنه لن يلمسه أبداً، وقد حاولت الحكومة الأمريكية أن تتجاهله وترفق به قدر الإمكان حتى لا تسبب فضيحة.. لكن الحقائق تغلبت أخيراً.. هكذا تحول بطل الطيران إلى لص عادى يلاحقه رجال الشرطة فى كل مكان.
لعنة هيروشيما لاحقت الجميع ولاحقت البشرية كلها، ومن رحمة الله بنا أن دولاً أخرى صنعت القنبلة وبهذا صار هناك توازن رعب. لا يمكنك أن تقذف القنبلة دون أن تدفع الثمن غاليًا فى إحدى مدنك. لكننا تعلمنا أن الدروس القاسية لا تدوم.. والإنسان سريع النسيان، لذا لا يوجد ما يمنع تكرار كارثة مماثلة بسلاح هو بالتأكيد أقوى من قنبلة هيروشيما آلاف المرات. ومن جديد سوف يحدثون الكارثة ثم يقولون: "يا إله السماوات!.. ما هذا الذى فعلناه ؟!!!!"