قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Friday, April 7, 2023

تان تان


facebook.com/arabictantan

تفاصيل كهذه هي التي تصنعنا.. مساء الشتاء البارد والنوم مبكرًا، ثم الاستيقاظ في طور السِنّة، غير مدرك هل أنت تحلم أم أنك متيقظ، فقط لتنطبع القبلة على جبيني الدافئ وتلمس أرنبة أنف أبي الباردة وجهي، ثم أجد مجلة (تان تان) في يدي.. لقد ابتاعها وهو عائد من العمل، وهذا يعني أننا كنا في مساء السبت. أنام والمجلة في يدي على الوسادة.. رائحة الحبر الملون والورق العطرة.. لو أنصفوا لقطروا هذه الرائحة في زجاجات وباعوها بأغلى الأثمان. لم توجد قط مجلة لها هذه الرائحة مهما بحثت، ولا أعرف السبب.. هل كان أنفي أقوى أم كانت مطابع الأهرام تستعمل أحبارًا مختلفة؟ لم أجد قط هذا السحر للورق القديم الرخيص في كل ما قرأته بعد ذلك من مجلات صقيلة فاخرة الطباعة.

فقط عند ظهر الأحد بعد العودة من المدرسة كان بوسعي أن أفتح الصفحات، وأغرق في عالم غريب بعيد: (ريك هوشيه) ومغامراته في تلك القرية الفرنسية، و(مارتان ميلان) والشحنة الغامضة التي ينقلها لوسط أفريقيا، و(سيمون النهر) الذي يخطو لعالم آخر من عوالم ما بعد المحرقة. 

عندما يحتشد أعظم الفنانين الأوروبيين لتقديم الكلمة العليا في فن الشرائط المصورة، وهم يعرفون أنهم يواجهون الوحش الأمريكي الثري القابع عبر المحيط الأطلنطي.. الوحش الذي صنع ميكي ودونالد داك والرجل الوطواط وسوبرمان والرجل العنكبوت. لسبب ما لم أكن مولعًا جدًا بالأبطال الجبابرة الذين يضعون أقنعة ويطيرون، لكنني وقعت في غرام دونالد داك كأي واحد آخر.

جاءت (تان تان) لتعزف بالضبط على النغمة المناسبة لروحي، وأعتقد أن هناك جيلًا كاملًا يدعى جيل (تان تان). كانت المجلة فاخرة الطباعة بمقاييس السبعينات، وكانت باهظة الثمن.. عشرة قروش لم تكن زهيدة بينما أغلى مجلة أطفال لا يتجاوز ثمنها ثلاثة قروش.. لهذا خضت معارك دائمة لأبرهن لأهلي على أن التضحية تستحق. أبي فقط كان يعرف أهمية هذه المجلة لي، بينما كانت أمي ترى أن هذا هراء وأن عشرة قروش يمكنها أن تشتري عشرات الأشياء الأكثر أهمية. 

(تان تان) المجلة البلجيكية التي ينشرها (لومبارد)، والتي كانت الثقب الذي نفذت منه الثقافة الفرانكفونية لنا. بطل المجلة الذي أعطاها اسمه هو الصحفي الشاب (تان تان) وصديقه القبطان (هادوك)، والتي رسمها الفنان (ريمي هيرجيه) وكانت قصصه ممتعة لكنها نادرة جدًا.

أعظم فنان عرفته (تان تان) في رأيي هو (هيرمان) الذي تعاون غالبًا مع المؤلف (جريج)، فقدّما شخصية راعي البقر (رد داست). (رد داست) راعي البقر الوحيد ذو الماضي الغامض الذي يوحي بأنه تورط في أشياء كثيرة لا نعرفها، لكنه – كالعادة – رام بارع جدًا. لقد قرر رد داست أن يعيش حياة شبه هادئة في مزرعة (666) التي تديرها الحسناء (كومانشي)، التي يمكن بشيء من الخيال أن نتخيل أنها (ساندرا بولوك). يذهلك ما قام به الرسام مع كاتب السيناريو لتحويل الرسوم إلى ما يشبه الفيلم السينمائي حتى أنك لتسمع الصراخ وصوت الطلقات.. الفنان المبدع (فواز) قال لي ذات مرة وهو يضرب كفًا بكف: "الرسام المجنون رسم دلو ماء يُقذف في عدسة الكاميرا بحيث صارت هناك قطرات توشك على لمس العدسة! بل إنه يرسم لعاب الخيول الهائجة وهو يتطاير نحوك!". أذكر المشهد البانورامي الرهيب لمدينة (لارامي) التي تعج بالمتسكعين في ضوء الغروب الأحمر. وماذا عن المواجهة الأخيرة في زقاق مظلم بين (رد داست) و(روس دوبز) حيث تلعب الظلال والصمت دورًا مخيفًا.. هل قلت (الصمت)؟ نعم. 

نفس الرسام يقدم لنا شخصية (برنار برانس) قبطان اليخت الذي يجوب العالم. الرسام لا يريد أن يسهل المهمة على نفسه لذا لابد من مؤثرات مرهقة في كل قصة.. هناك حريق وهناك عواصف رملية وهناك ثلوج وهناك مملكة بعوض.. هناك قصة تدور في صحراء حارقة بأمريكا الجنوبية حيث الشمس توشك على أن تحرقك أنت فلا تقدر على فتح عينيك.. لا عجب أن فنانًا مصريًا دأب على استنساخ رسوم (هيرمان) هذا استنساخًا، ولا عجب أن د. نبيل فاروق يعتبر (جريج) أديبًا عالميًا.. أي إنه ليس مجرد كاتب سيناريو. 

هؤلاء الرسامون مولعون بالتحدي وركوب الصعب.. هناك رسام تخصص في رسم المستقبليات، وقصص (داني المستقبل) و(راي) حيث لا يوجد ملليمتر واحد من الصفحة بلا زخرفة معقدة جدًا. 

الفنان (لوكلير) الذي تخصص في قصص (سيمون النهر) يعبر بالتحدي آفاقًا أخرى، وفي بداية قصة من قصص (سيمون النهر) نرى ذلك الشريد الجوال على ظهر حصانه يقترب من الكاميرا تحت السيول.. أقرب.. فأقرب.. وللمزيد من التأثير السينمائي يقدم لك نوتة موسيقية للحن المصاحب لهذا المشهد! هذه قصص عالية المستوى وسيناريوهاتها ناضجة جدًا زاخرة بالمحتوى الإنساني. هناك لقطة لا تنسى للفارس إذ يبتعد عن موقع مذبحة تعرض لها الغجر الرحالة في ذلك العصر.. مشهد أعتقد أنه احتاج لأسبوع كامل في رسمه مع التكوين السينمائي الواضح. وفي مشهد آخر ترى الطائرة تحلق فوق رأسه قادمة ثم تغيب في الأفق في لقطتين تعادلان ذات التأثير السينمائي المعروف. قارن هذا المستوى من الرسم والسيناريو بالأبطال الأمريكيين الشبيهين بالثيران بثيابهم المطاطة وعضلاتهم المبالغ فيها، وهم يهددون: "سأذيقك الويل أيها الرجل العنكبوت!".. إلخ.. عندها تكتشف أن هناك فارق مستوى لا يوصف بين الستريبس الأمريكية والأوروبية لصالح الأخيرة طبعًا. الأمريكان محترفون ويعرفون ما يخلب لب القارئ، لكن الأوروبيين يعملون بحب شديد ودقة.

مارتان ميلان الطيار قوي البنية العصبي الذي يكره الكلام المفرط.. هناك قصة غيرت الكثير من حياتي عن صداقته لفتى اسمه (جيروم)، وصداقة خالدة انتهت عندما قرر (جيروم) أن يزوّر شهادة طيران ليظل مع صاحبه للأبد.. ينام مارتان ميلان ليصحو على طرقات على زجاج الطائرة.. إنه جيروم ينزف دمًا وهناك طابور من الموتى ينتظرون حتى ينهي كلامه.. يقول جيروم لمارتان ألا يحزن عليه وألا يحمل نفسه المسئولية، ثم يلحق بركب الراحلين وسط السحاب.. ويفيق مارتان من نومه ليعرف أن جيروم قد مات عندما جرب قيادة طائرة وهو غير مؤهل. قل لي بربك: هل هذه قصة أطفال أم هي عمل من روائع الأدب العالمي؟ رحلة مارتان مع طفل صغير يبحث عن أبيه في غابات الأمازون، ورحلته مع شاب يعيد للأدغال اللبؤة الصغيرة التي رباها من صغره وكانت أول حب له.. سوف تبكي وأنت ترى اللبؤة تتخلى عن جُبنها لتمزق ثورًا هائجًا كاد يقتل الفتى.

رحلة لا توصف بين الأزمان والبلدان.. مع (تان تان) عشت في عصر الغال ومع الرومان وأيام الحرب العالمية وأيام تحريم الخمور في أمريكا.. سافرت لبلدان قصية جدًا في الشرق حيث رأيت حانات قذرة لا يجسر أحد على دخولها، وعشت مع الهنود الحمر، وذهبت للهند لأواجه جيوش المغول مع (كورانتان).. هبطت على القمر مع (دان كوبر) ثم مضيت في شوارع اليابان لأزور مسرح (النو) مع (مورتيمر).. عشت في عصور ما قبل التاريخ القاسية مع (تونجا) وعشت في أزمنة مستقبلية غير محددة مع (داني المستقبل).. عشت في الريف الإنجليزي مع سادته المتحفظين ومفتشي سكوتلانديارد المتقاعدين.. وخضت حروبًا كثيرة في العصور الوسطى. 

يخيل لي أن هذه المجلة ارتادت كل الأفكار الممكنة وأن كل فكرة قد سبق أن نشرت هناك. 

صحيح أن كلمة (يتبع) في نهاية القصة كانت تثير جنوني.. عليك الانتظار أسبوعًا هو الدهر ذاته حتى تعرف ما حدث.. لكنك في النهاية تقدر على جمع أعداد القصة كلها وقراءتها كاملة. 

جاء اليوم المفجع الذي أعلنت فيه المجلة أنها ستتوقف.. لقد انتهى ضخ الأحلام لأن السوق العربية قد أغلقت بعد (كامب ديفيد). توقفت المجلة ثم ظهرت في محاولة خجول بلا ألوان وبسعر فادح لا يمكن تصديقه (أربعون قرشًا)، ثم توقفت نهائيًا بعد ذلك.

كنا نحن جيل (تان تان) بلا مراء، ولا شك في أن أي سيناريو قصص مصورة كتبته في حياتي يحمل بصمة منها. أما عن التهمة الدائمة لها بأنها خنجر الثقافة الفرانكفونية المصوب لصدورنا، فرأيي أنها كانت تمر عبر مرشح مصري مخلص اسمه (الأهرام) حيث يتم استبعاد القصص غير المناسبة لثقافتنا، ولا أذكر أن أي جاسوس قبض عليه كان من قراء (تان تان). تذكر أن القيم الأمريكية تملأ مجلات ميكي وسوبرمان وسبايدرمان.. تذكر أنه لا توجد علاقة أبوة بين أي من أبطال ميكي، وتذكر أن دونالد داك لا يكف عن محاولة مواعدة (ديزي) البطة الفاتنة.

كانت (تان تان) نافذة فتحت لنطل منها على ما يفكر فيه العالم، ولا أرى أن هذه النافذة كانت مضرة بأي شكل، لكن هناك دلائل عدة توحي لي بأنها بعيدة تمامًا عن ذوق شباب اليوم، وقد فشلت عدة محاولات لإحيائها.. ربما تغير الشباب أو ربما التجربة لم تأخذ فرصتها الكاملة.. لا أدري.. لكني أعرف أنني أقتني كل عدد صدر من هذه المجلة، وأعرف كذلك أنها لو عادت للصدور اليوم لعدت لشرائها بلا تردد لأنها جزء حقيقي بالغ الأهمية من ذاتي.