قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Saturday, September 17, 2022

ذكريات الطاعون‬


Pixabay

‫قال لي صديقي في دهشة‪:
"‬أنت المجنون الوحيد الذي يمكن أن نجد عنده كتابًا اسمه‬ ‫التيفوس والتاريخ"!

لم أفطن قبل اللحظة إلى أن هذا الكتاب المهم الذي كتبه عالم الأوبئة "زنسر" يحمل‬ ‫عنوانًا غريبًا لهذا الحد.. الحقيقة أنني تعلّمت الاهتمام بتاريخ الأوبئة من هذا الكتاب‬ ‫بالذات‪ ،‬وكان يحوي دراسة مهمة عن أوبئة الطاعون في التاريخ‪ ،‬حيث يرى المؤلف أن‬ ‫معظمها كان أوبئة تيفوس في الواقع‪ ،‬لكن قدرات الطب في ذلك الوقت اعتبرت أي وباء‬ ‫طاعونا‪ .‬تذكرت هذا الكتاب المهم كما تذكرت كتابًا آخر هو "أمراض لها تاريخ" للدكتور "حسن فريد أبو غزالة" الذي صدر عن مؤسسة الكويت للتقدّم العلمي (طبعة أولى 1995). أما وقد كثر الكلام عن الطاعون، فإنني أرجع لهذين‬ ‫الكتابين القيمين‪ ،‬وقبل أن أتكلم أقول إن التقدم العلمي جعل الطاعون وباء محدود‬ ‫الخطر بلا شك‪ ،‬فلا ينبغي أن يكون غرض هذا المقال إثارة الذعر بل هو العلم بتاريخ هذا‬ ‫المرض.

منذ فجر التاريخ يخشى الإنسان الفئران ويربطها بالشر والدنس‪ ،‬وقد قالوا عن الفأر إنه من‬ ‫الحيوانات القليلة التي تستفيد ولا تفيد غيرها‪ ..‬سريع التوالد إلى درجة أنه لو تزوج فأر‬ ‫وفأرة ولم يلحق شر بذريتهما‪ ،‬فإنهما سيضيفان للعالم ‪ 15‬ألف فأر خلال عام! ‫هناك فأر لكل إنسان على وجه الأرض‪ .‬لقد برهنت الفئران على قدرتها على التكيّف والبقاء‪،‬‬ ‫لدرجة أنها الكائنات الوحيدة التي تنجو بعد التجارب النووية التي يُجريها الجيش الأمريكي في‬ ‫المحيط الهادي‪ .‬عرف الإنسان أن الطاعون والفأر يتلازمان‪ ،‬لكنه لم يربط بينهما بعلاقة السببية، ولم يعرف الثلاثي (فأر-برغوث-إنسان‫)، وإن لاحظ العظيم "ابن سينا" قبل سواه أن خروج الفئران من جحورها لتمشي مترنحة وتموت‪ ،‬هو نذير شر مستطير يسبق‬ ‫الوباء‬.

‫يظهر الطاعون كوسيلة محببة للانتقام السماوي في النصوص اليهودية‪ ،‬فمثلًا يزعمون أن‬ ‫الفلسطينيين عام ‪ 1320 ‬ق‪.‬م في أشدود سلبوا التابوت المقدس فعاقبهم الرب بأورام في‬ ‫مواضع سرية من أجسادهم‪ ..‬الوصف يوحي بشدة بالطاعون الدملي‬.

أما عن طاعون "جستننيان" فهو الوباء الأشهر في التاريخ‪ ..‬الاسم منسوب لإمبراطور بيزنطة‬ ‫الذي حكمها عام 527. يقول المؤرخون إن الوباء بدأ من مصر في قرية "الفرما" ثم سار عبر‬ ‫أرض فلسطين ثم بيزنطة‪ ..‬وفي كل يوم كان يموت عشرة آلاف رجل‪ ..‬وندر الحفارون وعمد‬ ‫الناس إلى الأبراج ينزعون سقفها ويملئونها بالجثث‪ ..‬ويصف أحدهم الوباء قائلًا: "تظهر‬ ‫دمامل في أعلى الفخذ‪ ،‬لا يعيش معها المرء إلا أيامًا معدودة‪ ..‬وخلت القرى من المزارعين‬ ‫والمدن من السكان‪ ..‬وقد عمر الوباء خمسين عامًا".

عرف الجنود المسلمون الطاعون في عام 640 ‬عند "عمواس" الفلسطينية‪ .‬توفي قائدهم‬ ‫"أبو عبيدة بن الجراح"، ومعه "يزيد بن أبي سفيان" و"معاذ بن جبل"، ومعهم ‪ 25‬ألف جندي‬ ‫من المسلمين‪ ..‬وكان "عمر بن الخطاب" رضي الله عنه متجهًا ليتفقد أحوال الجيش‪ ،‬فلم‬ ‫يدرِ هل يُواصل أم يعود! ‬هنا ذكر له "عبد الرحمن بن عوف" الحديث النبوي الشهير: "إذا‬ ‫سمعتم بالوباء في بلد فلا تَقدِموا عليه‪ ،‬وإذا وقع وأنتم فيه فلا تخرجوا فرارًا". كان هذا هو‬ ‫القول الفصل‪ ،‬فقرر الرجوع‬.

عام 1341 يظهر وباء الطاعون الأعظم من وسط آسيا. بدأ الأمر بمجموعة من التجار الإيطاليين العائدين من الصين‪ ،‬طاردهم التتار فاضطروا للفرار نحو أسوار ميناء "كافكا". دام‬ ‫حصار التجار ثلاثة أعوام وفي ذات يوم نفدت مقذوفات التتار مما جعلهم يستعملون نوعًا‬ ‫جديدًا من القذائف‪ :‬جثث من ماتوا بالطاعون في صفوفهم! ‬هذه كانت أول حرب‬ ‫بيولوجية في التاريخ. وهكذا بدأ الوباء.

‬ثم عاد التجار الإيطاليون فارين لبلادهم‪ ،‬فبدأ‬ ‫الوباء يزحف نحو العراق والأناضول ومصر وشمال أوروبا‪ ..‬وبسببه خلت غزة وجنين‬ ‫ونابلس من سكانها.

عام 1350 أعلن البابا "كليمنت السادس" تحديد العام للحج إلى الفاتيكان كي يتطهر الناس من الخطيئة‪ .‬هذه كانت أسوأ فكرة ممكنة؛ لأن مليونًا ونصف من الحجاج قصدوا الفاتيكان‪،‬‬ ‫لم يعد منهم سوى العُشر.

وقد دام الوباء 300 عام‪ ،‬وفي حلب كان الناس يدفنون عشرين جثة في القبر بلا غسل ولا‬ ‫صلاة‪ ..‬لقد بلغ عدد القتلى يوميًا ألف واحد‪ .‬وقد كتب محرر أيرلندي يصف الوباء في فقرة‬ ‫يقول في نهايتها: "إنني أنتظر الموت..."، وفعلًا لم يستكمل الجملة. وقد قيل إن نظرات‬ ‫المريض ذاتها تنقل المرض‪ ..‬لهذا كانوا يعصبون عينيه‪ ،‬وقيل إن السبب هو رائحته‪ ..‬لهذا‬ ‫انتشرت صناعة العطور.

وزحف الوباء إلى المغرب عام ‪ 1415‬فقتل ‪ 36‬ألفًا في شهر واحد‪ ..‬وبدأ النظام الإقطاعي‬ ‫يتراجع بسبب موت الفلاحين.

هكذا يستمر هذا الخصم المخيف يهجم ويتراجع‪ ..‬يهجم ويتراجع‬.

لا يعرف أحد لماذا سمي بالموت الأسود.. هل بسبب النزف في الجلد؟ لكنه انضم لرفاقه‬ ‫الملونين‪ :‬الموت الأبيض "السل" والموت الرمادي "الزهري". ‬لم يكن لدى الأطباء ما‬ ‫يفعلونه‪ ،‬وكان الطبيب يلبس ثيابًا غريبة وقناعًا يُشبه رأس الطائر قيل إنه يقيه من‬ ‫العدوى‪ .‬وقد ابتكر بعض الأطباء صابونًا من صديد مرضى الطاعون قيل إنه يعطي الوقاية‬!

تخيّل رجال الشرطة يفتّشون البيوت‪ ،‬فإذا وجدوا مريض طاعون أغلقوا البيت على من‬ ‫فيه‪ ،‬ورسموا على الباب صليبًا أسود مع عبارة "فليرحمنا الله"‪ .‬تخيل الحجر الصحي الذي‬ ‫يدوم أربعين يومًا‪ ،‬وتخيل إعدام من يحاول الفرار من منطقة موبوءة. اتهموا اليهود بأنهم‬ ‫السبب في الوباء؛ لأنهم يسممون الآبار‪ ،‬وحكم على كل يهودي في فرانكفورت أن يسلم‬ ‫للسلطات 5000 ذيل فأر كل عام.

‫إن مشهد السفينة التي مات كل من فيها بالطاعون فمشت وحدها في البحر في قصة‬ ‫"دراكيولا"‪ ‬ليس خياليّا تمامًا‪ ،‬فقد وقع لسفينة محملة بالبضائع غادرت ميناء لندن‬ ‫ثم ظلت تطفو بلا هدى حتى وصلت ميناء في النرويج‬.

لم يهمد الطاعون لحظة واحدة‪ ،‬ففي العام 1910 يُهاجم الحي الصيني في سان فرانسيسكو‬ ‫بالولايات المتحدة‪ ،‬فلم يوقفه إلا الحريق الشهير الذي اجتاح المدينة‬.

على أن نهاية المرض كانت قادمة عام 1835 على يدي "يرسين" تلميذ "باستير" السويسري‬ ‫النابغة الذي اكتشف البكتيريا المسببة للمرض‪ ،‬و"كيتاساتو" الياباني تلميذ "كوخ"‪ ..‬وهكذا‬ اختار الأول للميكروب اللعين اسم "باستوريلا بستيس‬" ‫تكريمًا لأستاذه‪ ،‬لكن العلماء ‫أصرّوا على تسميتها "يرسنيا بستيس"‪ .‬فيما بعد عرف دور الفئران في المرض‬ ‫وعام ‪ 1914‬عرف دور البرغوث‬. وبعد أعوام توصّل "هافكين" إلى ابتكار لقاح موفق للمرض‪ ،‬وإن لم يعد متوفرًا بسبب‬ ‫ندرة الوباء.

هكذا وبعد اكتشاف المضادات الحيوية وتطوّر الطب الوقائي، يمكن للعالم أن يعلن أخيرًا هزيمة الطاعون! هناك خطر قادم من الغرب‪ ،‬ولكن تذكر أننا لو كنا قبل هذا بمائتي عام لكان الموتى مكدسين في الطرقات لا سمح الله.. لقد جئنا في الزمن الصحيح. إنها بؤرة سوف‬ ‫تتم محاصرتها سريعًا‪ ،‬ويبقى الخطر الحقيقي هو ذلك المرض غريب الأطوار "إنفلونزا‬ ‫الخنازير‬".