تشيكوف القصصي الروسي العبقري كان هو الآخر من ألد أعداء التحذلق والادعاء. إنه ذكي حساس وما زال يملك روح الطفل الذي لا يطيق التصنع، لذا هناك قصص كثيرة حكاها ماكسيم جوركي عنه عندما كان يواجه المتصنعين. ذات مرة جاءته في مكتبه مجموعة سيدات متأنقات منتفخات كالطواويس وجلسن في كبرياء، ثم سألته إحداهن:
ـ "بالنسبة للحرب بين تركيا واليونان يا أنطون بافلوفتش. هل ترى أن تركيا هي الأقدر على الفوز؟"
أدرك بطبيعة الكاتب المرهفة أنهن لا يبالين شعرة بهذه الحرب، فقال في هدوء:
ـ "سوف ينتصر الأفضل"
عدن يسألنه عمن يفضل. تركيا أم اليونان؟ فقال باسمًا: أنا أفضل حلوى النعناع عن البلدين معاً! بعد قليل دخل جوركي المكتب، ليجد تشيكوف يثرثر في حماس مع السيدات عن حلوى التفاح وهل هي ألذ أم حلوى النعناع، وعندما انصرفت السيدات وعدته واحدة منهن بأن ترسل له صندوقًا من حلوى النعناع، فهي سعيدة لأنه يحبها مثلها. قال تشيكوف لجوركي عندما صارا وحيدين إنه أدرك أنهن لا يهتممن لحظة بالموضوع، وإنما هو التحذلق والحاجة للظهور بسمت المثقفين، بينما عندما قادهن إلى موضوع محبب لهن فعلاً دبت فيهن الحيوية، وصرن رائعات وصارت الجلسة ممتعة. كل إنسان يكون أفضل عندما يتكلم في الموضوع الذي يروق له.
تذكرت هذا الموقف بالضبط عندما كنت أتابع مقالات صديق لي في موقع إلكتروني. كان هناك طبيب يعلق على المقال بغرور في كل مرة، مندهشًا من سطحية وجهل كاتب المقال، وفي كل مرة يقول: "أنا كتبت هذا بشكل أفضل في كتابي المعنون (لن أذكر العنوان طبعًا حتى لا يقاضيني)". ثم يكتب مقالاً قصيرًا لا تفهم منه حرفًا، وكان القراء ينبهرون بهذا العقل الجبار، لكني ظللت أحتفظ بيقين أن هذا الطبيب متحذلق جدًا وعلى شيء من الجنون. بعد أسابيع كتب صديقي مقالاً يقول فيه ضمن قصة طويلة: إن زوجته أعدت له صينية من السردين. هنا وجدت الطبيب يعلق في حماسة: "السردين. السردين!. ما أجمله!. لكنه ليس ذلك السردين البلدي الذي كنا ننعم به في أيامنا". وفوجئت به يكتب نصف صفحة يصف بها طريقته الخاصة في إعداد صينية السردين في الفرن. لقد وجد الموضوع المثير الذي يهمه فعلاً. مثل زائرات تشيكوف. أما عن رواد الموقع فقد أصابهم الذعر وافترض أغلبهم أن الرجل قد جن، وكتبوا هذا. لم يكن مجنونًا. كان متحذلقًا وقد نسي التحذلق لدقائق واستمتع بذلك، فلا أشك أن لعابه كان يسيل على مفاتيح الكتابة وهو يكتب تعليقه ذاك.
عندما تقابل شخصًا يقول لك: "إن هذه الانطولوجيا التي كتبها فلان تنبعث من رؤية بانورامية للمدينة الكوزموبوليتانية. برغم ما فيها من شوفينية واضحة وما يتميز به الكاتب من ديماجوجية، فإنها يمكن أن تكون هرمينوطيقا متكاملة تمتاز بالكثير من الابستمولوجية".
عندما تقابل هذا الشخص فعليك أن تفر منه فرارك من الأسد. أنت - بلا فخر - في حضرة شخص متحذلق لا يمكن التعامل معه أبدًا. أنت في مأزق حقيقي.
في أحد المؤتمرات الصحفية في مهرجان "كان" سألوا المخرج الشهير جان لوك جودار عن أسلوب إخراجه للأفلام ومن أين يأتي بأفكاره، فقال:
ـ نحن لا نخرج الأفلام. نحن فقط نصور ونحمض. كارتر والخميني فكرا كثيرًا، بينما نحن لا نفكر. نحن فقط ننظر إلى الأشياء الحبلى بالمعاني!"
أما المخرجة الإيطالية ليليانا كافاني فقالت في مقدمة فيلم الجلد:
ـ "الجلد خارطة للوجود سواء كان جلد إنسان أم جلد كلب".
كان الناقد السينمائي الكبير الراحل سامي السلاموني ممن حضروا عرض الفيلم واستفزته هذه العبارة جدًا، فقال:
"أقسم بالله أنني لم أفهم حرفًا من هذه العبارة التي تبدو عميقة جدًا، بحيث يكون من لا يفهمها حمارًا. بينما أفضل الأشياء كان دائمًا أبسطها".
على كل حال يعرف المتحذلقون كيف يصنعون لأنفسهم جيتو منغلقًا خاصًا بهم يمارسون فيه التعالي والتحذلق، ولديهم جمهورهم المتحذلق ونقادهم المتحذلقون وهم يقرءون روايات بعضهم ويزورون معارض بعضهم ويتزوجون من بعضهم.والويل كل الويل لمن يحاول دخول هذا الجيتو من السطحيين أمثالنا.
وللحديث بقية.