قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Friday, April 30, 2010

اعترافاتى



كنت في سيارة أحد أصدقائي، عندما قال لي وهو يدسّ قرصاً مدمجاً في مشغل الأقراص
ـ"اسمع هذا.."ـ

ومن السماعات تعالى صوت "أبو الليف" -الذي لم أكن أعرف أنه كذلك- يقول: "دولا مجانين..".. إلخ.. ظللت أصغي بعض الوقت؛ فلم يبدُ لي رديئاً.. اللحن رشيق والكلمات ساحرة وذكية فعلاً.. لم أكن أعرف وقتها أنها من تأليف شاعر موهوب مثل "أيمن بهجت قمر"ـ

ليس عملاً سيمفونياً عظيم القيمة، وبالتأكيد لا يهدد عرش عبد الحليم حافظ أو حتى تامر حسني؛ لكن في النهاية تنطبق عليه كلمات "هاني شاكر" عن "عدوية": ليس مطرباً بالضبط.. إنه مونولوجست من نوع خاص جداً

هاني شاكر مثقف وكلماته محسوبة بالجرام، وقد ظللت أذكر هذا التعبير على مدى ثلاثين عاما


بعد هذا بدأت حملة لطم الخدود التقليدية.. لقد بدأ زمن "أبي الليف" بعد زمن شعبان عبد الرحيم.. هاوية أخرى تسقط فيها الطبقة الوسطى التي قررت أن تدخّن البانجو وتتمرغ في الطين

الطبقة الوسطى تعاقب نفسها على ما صارت إليه بمزيد من الابتذال؛ لذا راحت ترحّب بأبي الليف وسواه، مثل الفتاة التي فقدت شرفها فراحت تدهن وجهها بالوحل

بصراحة لم أرَ الأمر بهذا السوء ولا هذه الرداءة؛ بل إنني كذلك وجدت أن هذه الكلمات الرشيقة الذكية قد تضيف شيئاً لآذان الشباب، على الأقل هي أقلّ خطراً من "بوس الواوا" و"الصراحة راحة وإنت ما بتعرفش"؛ حيث التلميحات الجنسية هي اسم اللعبة ولا شيء سواها؛ لكني لم أجرؤ قط على الإعلان عن هذا.. المجتمع يحتم أن تكون مصدوماً مشمئزاً؛ وإلا فأنت لست كما ظننا بك

من ضمن الأشياء التي لم أجسر قط على الاعتراف بها أن الفنان "سمير غانم" قادر على أن يضحكني في أي وقت بمجرد أن يبدي بعض الاشمئناط أو يرفع حاجب السخرية إياه

قديماً قال الساخر محمود السعدني: إن سمير غانم يفتقر إلى العمق الإنساني، وإن زميله جورج سيدهم هو الممثل الكوميدي الذي يحاول إضحاك طفل؛ فإذا فشل جلس يبكي جواره؛ بينما سمير غانم يحاول إضحاك الطفل؛ فإذا فشل هز كتفيه وانصرف

هذا صحيح إلى حد كبير، ولا أعتقد أن الرجل وجد نصاً واحداً جيّداً في حياته؛ لكنه برغم هذا يملك قدرة هائلة على الإضحاك.. إضحاكي أنا على الأقل.. الرجل ظريف وكفى

أما الاعتراف الأشد إذلالاً للمرء؛ فهو أنني أحب "اللمبي".. لا أعني الفنان محمد سعد على إطلاقه، ولا أطيق أياً من سلسلة أفلامه التي تلوّى فيها وعوى وشدّ شعره وتحوّل لمائة شخصية كي يضحكنا؛ فلم ينجح (كقاعدة: يتناسب ظرف الفنان عكسياً مع الجهد الذي يبذله للإضحاك)ـ

أنت تحتاج إلى الكثير جداً من الكولا كي تبتلع "كركر" أو "كتكوت" أو "بوحة" أو كل هذا الهراء الذي قضى على الممثل الموهوب قضاءً شبه مبرم

لكني هنا أتحدث عن اللمبي.. شخصية الشاب المقيم في العشوائيات والذي لم يجد طريقة واحدة شريفة لكسب الرزق، والذي يبدو أن العالم كله قد خرج للظفر به؛ فغاب في مستنقع المخدرات

كان هناك لمبي حقيقي في أعماق كاتب السيناريو والحوار، وكان هناك لمبي حقيقي في أعماق محمد سعد سمحا له بالخروج؛ فدبّت فيه الحياة.. صار هو ذلك الشاب الذي  تراه في كل مكان

تذكرت كلمات د. وليد سيف الرائعة (سلسلة آفاق السينما – 29)؛ إذ قال: "اللمبي موجود فعلاً يا سادة.. إنكم ترونه لكن تشيحون بوجوهكم كي لا تروه.. أنتم تغلقون زجاج نوافذ سياراتكم عندما يقبل نحوكم ليبيع الفلّ.. تتركون خَدَمكم يتعاملون معه عندما يعرض بضاعته في حقيبة يجول بها في عزّ الحر.. اللمبي في كل مكان.. يمكن رسم خريطة وجوده على العاصمة لنجد أنه يمثّل نسبة كبرى من شباب العشوائيات.. اللمبي يلقي بعقب سيجارته في وجوهكم ساخراً من مشاريعكم العملاقة وفنونكم التي لا يفهمها.. مشكلة اللمبي أنه لم يكذب بما يكفي.. ولم يكن مبتذلاً بما يكفي

لا ينكر أحد أن أفلام الموجة الجديدة لا تلجأ لما عرفناه من قبلُ من عري فاضح وقبلات ساخنة محشورة وحوار مليء بالتلميحات الجنسية.. إن اللمبيين قادمون شئنا أم أبينا"ـ

هناك كلمات مماثلة كتبتها الأستاذة صافيناز كاظم: كانت شخصية اللمبي حقيقية جداً متقنة جداً، ابتلعت محمد سعد نفسه، كما كادت شخصية بوند تبتلع شون كونري، وكادت شخصية دراكيولا تبتلع كرستوفر لي؛ لهذا فشل محمد سعد تماماً عندما ابتعد عنها؛ لأنه لم يشعر بالشخصيات الأخرى بنفس القدر، وأعتقد أنه سيكتشف مع الوقت أنها لابد أن تعود للحياة؛ لأنه -للأسف- لم يعد له وجود من دونها

هناك عشرات من الاعترافات المماثلة عن أشياء لا ينبغي أن أحبها
على الجانب الآخر هناك أمور يجب أن أعترف أنني لم أستطع أن أحبها قط، مثلاً
أغنية "من غير ليه" آخر أغنيات الراحل العظيم عبد الوهاب، في فترة من الفترات صارت هذه الأغنية خاتماً للمثقف، وكتب مفيد فوزي مرة قائلاً: حان الوقت لننظف آذاننا مع "من غير ليه"، وكتب مرة أخرى: تصوّروا أن البعض لا يحب أغنية "من غير ليه"؟؟؟؟؟؟
مع مائة علامة استفهام وتعجّب

مع هذا القمع الفنيّ لا يمكنك أن تقول: إنك ترى الأغنية مفتعلة وسخيفة.. هناك افتعال لحيرة ميتافيزيقية لا داعي لها (جايين الدنيا ما نعرف ليه) وهناك تحذلق في التوزيع.. طبعاً هي أرقى من "أبو الليف"؛ لكنك تعطي الأخير مزية التلقائية

هناك ذلك الاعتراف المروّع الذي قدّمه "عادل حمودة" في التسعينات، عندما اعترف أمام الكاميرا أنه لا يحب أم كلثوم؛ فقامت الدنيا ولم تقعد.. قال: إننا نتمسك بقواعد مقدسة لا نتنازل عنها، وإن المذيعة تقابل سائق سيارة فتسأله عمن يفضل في الغناء.. تكون الإجابة المحفوظة هي: "طبعاً الست"؛ بينما في جهاز كاسيت السيارة يوجد شريط لعدوية.. هكذا يصل بنا الأمر إلى أننا لا نعرف غالباً ما نحبه حقاً

الفنانة فردوس عبد الحميد ممثلة قديرة بلا شك؛ لكني لم أستطع قط ابتلاع الطريقة التي يظهرونها بها في المسلسلات كـ"جان دارك".. قيمة غير بشرية تطلّ على الخطاة وتصدر أحكامها، تواجه الكاميرا بعينين ثابتتين ولا تكفّ عن إلقاء القيم والمواعظ طيلة الوقت.. لو كنت تذكر مسلسلات "صيام صيام" أو "أنا وإنت وبابا"؛ فأنت تعرف ما أعنيه

دعك من أن صوتها الغنائي سيئ في رأيي الخاص؛ بينما كانت فعلاً في أفضل حالاتها في دور بسيط مثل "نفيسة" الوريثة المثقفة الساذجة التي لا تعرف شيئاً عن العالم.. هكذا عرفناها على الشاشة أول مرة؛ لكنك لا تجسر على الاعتراف بهذا لأن المثقفين ينظرون لك في ذهول: هل حقاً تجرؤ على ألا تحبها؟

لقد انتهيت من هذه الاعترافات المروّعة وغيرها كثير.. أعرف أنني قد صدمَتْك، وأنني دخلت قائمتك السوداء؛ لكن المرء لا يستطيع أن يستمر في الادعاء وهو في هذه السن

لي صديق يدنو من الخمسين اكتشف فجأة أنه يعشق مونولوجات إسماعيل يس، ويحتفظ بعدد هائل منها كأنها سيمفونيات.. صارحته برأيي في هذا السلوك المعيب؛ فقال: هناك لحظة يجب على المرء فيها أن يترك نفسه تحب وتكره ما تريد، حتى لو كان سبيله لهذا أن يعلن عن إعجابه بأبي الليف