فكرة لم أستطع بعد أن أرسمها بدقة، ولا شك أن خبراء التربية وعلم النفس التربوي المحدثين قد درسوها بعناية وقسموها درجات، لكنني بالطبع لا أملك سوى انطباعاتي العامة الفطرية، وقد شخت على الغوص في مراجع علم النفس لأجد المصطلحات الدقيقة التي تعبر عما أريد قوله.
كتبت مرارًا عن أن الذكاء أنواع؛ وأن هناك نوعًا خاصًا منه يتعلق بالقدرة على الخلق الإبداعي.. الذي يقدر على رسم لوحة أو كتابة قصة أو تأليف سيمفونية. ثمة نوع يتعلق بسرعة تعلم اللغات (أعتقد أنني أملك قدرًا معقولاً منه)، ونوع يتعلق بالقدرات الرياضية العقلية الخارقة (لا أملك ذرة منه).. لي صديق يمكنه ضرب أربعة أرقام في أربعة أخرى دون قلم أو ورقة.. هناك ذكاء سرعة الحفظ. هناك نوع غريب من الذكاء أقرب إلى غرائز الحيوانات البرية، وأطلق عليه اسم (نصاحة)، وهو نوع الذكاء الذي يجعل رجلاً معدمًا يفتقر للتعليم يملك عدة عمارات وقصور، وهو نوع الذكاء الذي يجعل بائعة البقدونس تتلاعب بك كطفل. عرفت أساتذة جامعة بارعين يُخدعون في أي مشروع يدخلون فيه، ويتلاعب بهم أمثال هذا الرجل المعدم. لربما أمكن أن نطلق لفظة (لماحية) بدلاً من لفظة (نصاحة) لكني لست واثقًا من أنهما الشيء ذاته. يبدو أن القدرة على تذكر الوجوه تندرج تحت هذا النوع من الذكاء، ولا شك أنه ضروري لدى أي سمسار ناجح.
هناك القدرة على إيجاد حلول ابتكارية بسرعة. رأيت طبيبًا يحاول أن يحشر فوهة معدنية في خرطوم مطاطي بلا جدوى، هنا قام عامل بسيط بملء كوب من الماء الساخن وضع فيه طرف الخرطوم حتى لان، ثم أدخل فيه الفوهة المعدنية بسهولة.
على العكس من ذلك، سعة الاطلاع ليست ذكاء على الإطلاق. هي موهبة تصلح لحل الكلمات المتقاطعة والفوز في برامج جورج قرداحي، لكن من يعرف طول نهر الأمازون ليس ذكيًا بالتأكيد.
تذكرت هذا الموضوع منذ أعوام، عندما كنت أقف لدى أحد القصابين أبتاع لحمًا. كان سعر كيلوجرام اللحم وقتها أربعين جنيهًا مما يدلك على أنها ذكرى قريبة جدًا!.. وكان القصاب يتسلى بممارسة (النصاحة) معي، وهو يسخر في سره من أستاذ الجامعة الذي يمكنه أن يقنعه بأي شيء أو يدس له أردأ قطع اللحم، مقنعًا إياه أنها (قطعيات) نادرة لها ثمن خاص.
هنا رأيت امرأة مسنة في الستين من العمر تقريبًا تخطو مترنحة في الشارع أمام محل القصاب، ثم سقطت أرضًا فاقدة الوعي. تعاوننا على نقلها إلى الداخل الظليل وقدم لها صبي القصاب كوب ماء. كانت امرأة بسيطة ريفية لا تكف عن البكاء الهستيري ولطم الخدين. وفي يدها لمحت رزمة ممزقة يطل منها بعض الورق الأبيض بحجم ورقة البنكنوت.
لما تمكنت من الكلام أخيرًا، قالت إنها من السنطة، وهي مركز صغير من مراكز الغربية يقع على بعد ثلث ساعة من قلب طنطا. قالت إنها كانت في موقف السيارات تبغي الركوب لطنطا، عندما توقفت سيارة أمامها بها رجلان. أكبر الرجلين ناداها باسمها وقال إنه صديق ابنها وعرض عليها توصيلها لطنطا. وافقت في حماسة على سبيل (الاستخسار).
في الطريق إلى طنطا دار حوار سريع. أبدى الرجل الأول إعجابه بالحلي التي تلبسها.. القرط والقلادة والسوار، وعرض عليها أن يشتري منها هذا الذهب بخمسين ألف جنيه (وهو مبلغ ممتاز بأسعار الذهب وقتها) فوافقت على الفور، وتم التبادل. أخذ منها الذهب وناولها لفافة مليئة بالبنكنوت وعدّ لها الرزم.. ثلاث.. أربع.. خمس رزم.. مبروك.
ثم أنها ترجلت من السيارة في طنطا سعيدة بالصفقة الذكية التي أبرمتها، وفتحت اللفافة – بمجرد ابتعاد السيارة – لترى المال فاكتشفت أنها أوراق بيضاء غلفت بالعملة على الجانبين على طريقة السينما.. صرخت وغابت عن الوعي.
كان الجزار يستمع لها في غير تعاطف وهو يمضغ لفافة التبغ، أما أنا فكنت في ذهول من كل هذا القدر من الجشع والحمق والغباء. الصفقات لا تتم بهذه السرعة والسهولة.. لا أحد يركب مع غرباء، فإذا ركب فهو لا يبيع الذهب، فإذا باع فهو لا يأخذ رزم مال مغلقة لا يعرف ما فيها. بقرة آدمية هي.
قال لها الجزار في فتور إن عليها أن تذهب لقسم الشرطة لتبلغ عن النصب الذي تعرضت له، فعرضتُ في حماسة وأريحية أن آخذها هناك بسيارتي.
مال علي وهمس من تحت شاربه الغليظ:
- «لا تتورط يا دكتور.. سوف تتهمك بأنك من سرق ذهبها بمجرد أن تنزل أمام قسم الشرطة!»
قلت له في عدم فهم:
- «كيف؟… إنها ضحية!»
- «اسمع الكلام!»
ثم مد يده طالبًا ثلاثة جنيهات مني.. كان هذا هو أجر سيارة الأجرة وقتها، ثم لوح بالسكين لسيارة أجرة مارة ففتح الباب وألقى بالعجوز إلقاء داخل السيارة، ودفع للسائق ثلاثة الجنيهات، وأمره أن يأخذها إلى قسم ثان طنطا و«خلي بالك منها يا هندزة.. دي زي والدتك».
ابتعدت سيارة الأجرة هنا أطلت العجوز من النافذة وصاحت بصوت رفيع وهي تشير نحوي:
- «هو ده اللي ……….»
لكن السيارة كانت قد ابتعدت..
قال الجزار وهو يزن اللحم الرديء لي لأنصرف:
- «لا يمكن تصديق قصتها.. لا يوجد أحد بهذه البلاهة. يبدو أنها قامت باختلاق الأمر كله.. هناك احتمال كبير جدًا أنها كاذبة، وتريد توريط أفندي مثلك في مشكلة ليدفع لها.. الاحتمال الثاني أن قصتها حقيقية وأنها فعلاً بهذا الغباء والطمع.. من الوارد جدًا أن تتمسك بك وتصرخ أمام قسم الشرطة لتورطك في فضيحة ودفع مبلغ يعوض خسارتها.. صدقني يا دكتور.. نحن قمنا بالشيء الصحيح».
تذكرت وجهها الغبي الجشع وهي تنظر من النافذة كدابّة.. هو ده اللي…..؟ ماذا كانت تنوي قوله؟ كتلة ضيق الأفق التي لا يمكن التنبؤ برد فعلها. تذكرت رواية يوميات نائب في الأرياف عندما وقف وكيل النيابة الشاب مع توفيق الحكيم يراقبان عرضًا قانونيًا أمام فلاحة مسنة.. أوقفوا أمامها صفًا من الرجال لتختار من قتل زوجها منهم. تجاوزت الصف كله ثم هوت بقبضتها على صدر وكيل النيابة الشاب صارخة: «غريمي!». قال توفيق الحكيم إنه منذ ذلك الحين فقد الثقة في قيمة العروض القانونية مع كل هذا الغباء، ومع التراكوما والرمد البثري اللذين قضيا على بصر هؤلاء القوم.
شكرت القصاب وأنا أحمل قطعة اللحم الرديئة، وقلت لنفسي إنه رجل أريب حذر يملك قدرًا هائلاً من النصاحة. تخلص من العجوز ولم يدفع حتى ثمن سيارة الأجرة بل تقاضاه مني، ثم تخلص من ألعن قطعة لحم لديه.
قالت منال زوجتي عندما فتحت كيس اللحم:
- «كيف ينجح القصاب في خداع رجل مثقف مثلك في كل مرة؟»
قلت وأنا أغسل وجهي:
- «الثقافة شيء والذكاء شيء والنصاحة شيء آخر .. ما أعرفه هو أنه أنقذني من مشاكل محتملة لا حصر لها، لهذا أنحني له احترامًا وتوقيرًا. لقد استحق أن يخدعني».