رسوم الفنان طارق عزام |
3- رافــان
سامية كانت مرهقة جدًا عندما زرناها في البيت.
هناك كانت جالسة في الفراش وقد أسندوا ظهرها بالوسائد، ملكة متوجة على عرش الأمومة، على وجهها ذلك الشحوب الراضي المميز لأنثى تحققت أنوثتها، وكانت تفوح من أنفاسها رائحة الحلبة، بينما أم رءوم مسنة تعنى بها كطفل..
الرضيع جوارها على الفراش وهو يقرقر.. بينما تضع فيروز مظروف (النقوط) على الوسادة جواره.. فتضحك سامية في امتنان شاكرة.. تعبت نفسك…
سألتها نازدار أختي وهي تشرب الشاي:
- «هل قررت تسميته؟»
- «ما زال الوقت مبكرًا.. ربما أطلقنا عليه اسم (عباس) مثل والد محمود!»
تبادلنا النظرات الساخرة وقلصت نازدار أنفها مستنكرة.. ربما هو اسم مناسب لرجل ضخم بشارب، لكنه بالتأكيد لا يناسب هذا الرضيع الجميل.. ليس ذنبه أن يصير اسمه عباس..
فيروز أختي ظلت صامتة..
أنا أعرف أسرار فيروز.. هي تحب أن تخبرني بأسرارها وتضن بها على نازدار.. نازدار صارمة قاسية نوعًا ولا تفهم دلع البنات، دعك من اضطراب نفسيتها.. أعرف جيدًا أن فيروز بعد خروجها من هنا ستذهب للقاء شادي… قصة الحب التي دامت عامين..
لم أحب قط منظر شادي لأنني لا أميل لرجل ملتحٍ يعقص شعره خلف رأسه، وأفضل المنظر الكلاسي للرجال، لكن هذا شأنها على كل حال.. لم يطلب مني أحد أن أحبه، لكن الوقت قد حان كي يقابل أبانا.. أبانا المسن الذي أثقلت مسئوليات ثلاث فتيات ظهره..
هنا لا أخفيك سرًا فأنت صرت من الأسرة..
نازدار غير مستقرة نفسيًا، وقد أرغمناها على تلقي العلاج.. لكن لا أحسبها تتحسن. هذه مشكلة أخرى تثقل كاهل أبي. قال لي في تلك الليلة وهو يدفن رأسه في كتاب:
- «نازدار تعاني بلا شك مشكلة الحرمان من الأم.. لم تر أمها منذ كانت في السادسة.. لا شك أن لهذا آثاره».
قلت له في غيظ:
- «ونحن؟.. ألم نحرم من أمنا مثلها؟»
- «كنتما أنت وفيروز أصغر سنًا.. هناك سوابق كثيرة لأطفال حرموا من أمهاتهم في سن مبكرة جدًا قبل أن يفهموا معنى الموت أو الطلاق. بالنسبة للطفل سيتحول هذا إلى (عدم وجود) للأم فحسب.. ويتأقلم مع أي أنثى أخرى. واضح أن نازدار لم تتأقلم».
أمي عراقية.. لا شك أنك استنتجت هذا من أسمائنا غير المألوفة في مصر، لكننا مع الوقت صرنا موضة وصارت سيدات كثيرات يستعملن نفس الأسماء، وبالطبع كلما سألت سيدة منهن عن معنى الاسم قالت إنه (زهرة) بالفارسية أو (نهر في الجنة).
نهضت سامية متأهبة كي تذهب إلى الحمام، فتعاونت الأم مع فيروز على مساعدتها على النهوض. مترنحة وضعت قدميها اللتين ما زالتا متورمتين على الأرض، وراحت تنقلهما في وهن مستندة على المرأتين. لحقت بها لأساعدها..
خرجت معها إلى الصالة وهي تئن وتمشي ببطء. وفتحنا لها باب الحمام لتفرغ مثانتها.
هنا تذكرتُ…….
هرعت إلى غرفة النوم في الوقت المناسب لأرى المشهد الذي كنت أتوقعه. لقد نسينا نازدار وحدها في الغرفة، وكانت تقف هناك منحنية على الفراش ممسكة بوسادة ثقيلة، وبدا واضحًا أنها ستهوي بها على وجه الطفل الرضيع ليختنق بعد ثانية واحدة.. مفاجأة غير سارة كانت ستقابل سامية لدى العودة لغرفة النوم..
انتزعت الوسادة من نازدار فنظرت لي بعينين جميلتين متوحشتين.. نازدار رائعة الجمال كما تعرف.. قالت لي وهي ترتجف وتترك الوسادة دون مقاومة تذكر:
- «دعيني.. رافان!!».
أمسكت بمعصمها وأرغمتها على الجلوس. جلست كأنها دمية بلا إرادة فقلت لها همسًا:
- «لن تستطيعي أن تهربي من جريمتك!».
قالت وهي ترتجف:
- «لا أبالي!.. هذا أقوى مني.. تعرفين!».
أعرف.. أعرف أن هذا الهاجس صار يطاردها. ربما هي لم تحققه، لكني أعرف يقينًا أنها ستفعل. ستنجح يومًا ما.. ستخنق طفلاً رضيعًا ولربما امتصت دمه. هذا الهاجس النفسي يؤرقها ويجعل حياتنا جحيمًا لأن عليّ أن أراقبها طيلة الوقت، وعندما وضعت سامية قريبتنا طفلها كان علي ألا أحضر نازدار بتاتًا.. لكن اختفاءها كان ليثير الريبة..
سمعت صوت الأم العائدة لفراشها، فساد الصمت..
نظرت إلى نازدار فوجدت وجهها استعاد قناعه المرح الذي اكتسى به من قبل..
***************
لابد أن هذا كان منذ شهرين قبل الولادة..
في تلك الليلة نام أبي، وفي منتصف الليل سمعت نازدار تتنحنح.. تنهض من الفراش فتهز فيروز لتوقظها.. ثم تهزني لتوقظني، وكنت متيقظة فعلاً..
كان ضوء (السهرية) خافتًا، ينعكس في عينيها الجميلتين وهي تقول لنا كلامًا كثيرًا غريبًا..
النداء الذي أشعر به.. النداء الذي ستشعران به بعد قليل، والبذرة التي بذرتها فينا أمنا..
ثم همستْ بصوت كالفحيح:
- «نحن الشقيقات إمبوسي… مورموليسيا…! هل تفهمن هذا؟».
تبادلت وفيروز نظرات الذعر.. البائسة جُنّت تمامًا..
قالت نازدار في ثبات:
- «ألا تفهمان بعد؟ نحن جئنا من أرض بين النهرين، حيث سادت أساطير عشتار وليليث.. أمنا لها اسم لا يثير الشكوك لكنها في الحقيقة تدعى لاماتسو.. لقد انتقل الإرث لنا نحن الأخوات إمبوسي.. نحن الذئبات المفترسة!…. في الماضي كنا نقتل الحوامل أو نخنق الأطفال الرضع ونمتص دمهم..».
صرخت فيروز في توحش:
- «هلا كففت عن هذا؟ أنت مجنونة!!».
وقلت أنا في ذهول:
- «إن الطبيب النفسي الذي يعالجك فاشل تمامًا!».
- «لأن ما أنا فيه ليس مرضًا.. إنه ميراث الأجيال.. لابد أن جدتي كانت تعابث جلجاميش وتتحدى عشتار هناك في بابل.. أبونا تزوج أمي ثم أصابه الذعر عندما عرف طباعها فطلقها، وعاد ببناته الثلاث لمصر.. لم يعرف الحقيقة..».
صرخت فيروز من جديد:
- «اخرسي يا سافلة.. أنت تثيرين رعبي!».
ضحكت ضحكة خافتة مخيفة، ودون أن تقول كلمة أخرى التفت بملاءتها وأدارت لنا ظهرها وغرقت في النوم..
لكنها كانت قد ألقت بذرة الرعب في نفوسنا..
لسبب ما شعرت وشعرت فيروز أنها ليست مجنونة تمامًا.. نحن لا نعرف شيئًا عن أمنا.. فماذا يعرف أبي؟ لماذا طلق أمي؟ ولماذا لم تحاول الاتصال بنا منذ الطلاق؟
لكننا عرفنا على الأقل أن نازدار خطرة.. من المخيف أن تتركها مع أي طفل رضيع. هناك لحظة دائمة تدرك فيها أنها توشك على خنقه أو قتله وننقذ الموقف بصعوبة. هي مجنونة ولسوف ترتكب جريمة كارثية.
الأسوأ أنني عرفت أنها بحثت عن وظيفة.. وقد بارك أبي هذا طبعًا خاصة أنني وفيروز ما زلنا ندرس.
كانت خريجة لكلية الآداب، ثم عرفنا أنها وجدت عملاً.. أين؟… في إحدى دور رعاية الأطفال!!.. لا أعتقد أنها ستقابل الكثيرين من الرضع، لكن هب أن هذا حدث؟
ازداد الأمر سوءًا عندما سمعنا بعد شهر عن وفاة غامضة لطفلين في تلك الدار. الصحف كتبت عن هذا وتحدث أطباء كثيرون عن SID وهو موت الرضع المفاجئ الذي ينجم عن وضع الطفل الرضيع في وضع غير مريح حراريًا.. كابوس العالم الغربي. لكننا لم نرتح كثيرًا لهذا التفسير..
هل هو تأثير بنات لاماتسو؟
في جميع الأحوال نحن في مأزق خطير.. لا يمكن أن أخبر أبي بمخاوفنا، وفي الوقت نفسه لا أستطيع أن أتكلم عما قالته نازدار في تلك الليلة السوداء.
الحل الوحيد هو أن أنتظر..
يُتبع