قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Thursday, January 14, 2010

دماغى كده - فى أحوالنا الجارية - مخلوقات كانت رجالا



أقرأ الآن كتاب "دماغى كده" و هو كتاب رائع يحوى الكثير من مقالات د أحمد حول مواضيع مختلفة... و سوف نتكلم عنه فى سلسلة "قرأت مؤخرا" بعد أن أنهيه إن شاء الله

و لكن فكرت أن أعرض منه بعض المقالات التى لفتت انتباهى بشكل خاص... لثرائها أو روعتها أو أسلوبها  أو طرافتها أو لأنها لامست بعض الأوتار و تناولت بعض القضايا التى تشغلنى بشكل خاص... برغم قدمها

كفانى حديثا و لنستمتع سويا بكلام الرائع د أحمد خالد

شكر خاص للدكتور أحمد لإرساله نسخة رقمية من الكتاب خصيصا

===========================

(1)

لا يوجد ثقاب يا حضرات .. هذه هي الحقيقة المريعة التي أدركتها بعد البحث في عشرة أماكن، والسبب كما قال لي البقال هو أن سعره سيرتفع ليصير جنيهين إلا الربع للقاروصة بعد ما كان جنيهًا. كما تعرف تكفي أية إشاعة في مصر عن ارتفاع سعر شيء ما كي يختفي من على ظهر البسيطة.  قال لي البقال هامسًا: "هل تصدق أن المشابك الخشب اختفت كذلك ؟"ـ

لا أعرف أهمية المشابك الخشب ولست مستعدًا للغضب من أجل اختفائها .الثقاب شيء تافه، وهذه الزيادة لعب أطفال بالنسبة لما حدث للزيوت والمكرونة واللحم والبنزين، لكن هذه كانت القشة التي قصمت ظهر البعير بالنسبة لي فرحت أردد
ـ"ربنا ياخدهم أو ياخدنا !! "ـ

والبقال ينظر لي في دهشة من ذلك الطبيب الذي فقد أعصابه لأن سعر الثقاب ازداد خمسة وسبعين قرشًا. لابد أنه تساءل عن مدى شُح هؤلاء الأفندية. لكن الثقاب ليس كل شيء بل هو آخر قائمة مرهقة من الأعباء التي تتضاعف يومًا بعد يوم وبسرعة لا تصدق بعد العلاوة إياها، حتى أن نفس البقال قال لي ذات يوم ساخرًا
ـ"سعر الزيت النهارده كذا .. أصل أسعارنا بتتغير كل يوم زي الصاغة !"ـ

ربنا ياخدهم أو ياخدنا .. هذا حل عادل بالنسبة لي، والثقاب مهم لنا إذا أردنا أن نحرق أنفسنا فلماذا يختفي ؟
ماذا يريد هؤلاء القوم منا ولماذا لا يتركوننا نحيا ؟... لماذا يصحون كل يوم من نومهم ليجعلوا الحياة أعقد ويتأكدوا من أننا نزلنا طبقة في السلم الاجتماعي ؟.. لماذا لا يكتفون ويرحلون بما سرقوه منا إلى جزر الكاريبي ليعيشوا كالملوك ، ويتركوننا نحيا بما تبقى في هذا البلد ؟ .. وما الفارق بين أن تكون ثروة الواحد منهم 20 مليارًا وأن تكون 21 مليارًا ؟. هم فقط يريدون أن يعتصروا الليمونة حتى آخر قطرة .. لن يركبوا الطائرات المتجهة إلى سويسرا قبل أن يتأكدوا من أن آخر موظف قد صار حافيًا وآخر طفل قد مات بسوء التغذية وآخر سنتيمتر مكعب من الغاز الطبيعي تم ضخه لإسرائيل، عندها فقط يسافرون وينسون كل شيء عن مصر .. ربما يظهر واحد منهم في التلفزيون السويسري ليتنهد ويقول: مصر أم الدنيا .. واحشاني قوي

منذ أيام جاءني ذلك الشاب المصرفي المتأنق الذي أفرزه عصر الانفتاح بكثرة في مجتمعنا .. قميص قصير الكمين وربطة عنق ومن حزامه تتدلى عشرات الأجهزة المبهمة التي توحي بالأهمية، وكما يصف صنع الله إبراهيم هذا النمط فهو يستعمل طيلة الوقت لمحات من ثقافة غربية سطحية، وغالبًا يبيع الهواء. لابد من استعمال لفظة
CEO
و
Sale
و
Share
  في كل جملة تقريبًا. جاءني يقنعني بأن أدفع ألف جنيه شهريًا لمدة ثلاثين عامًا وسوف أظفر في النهاية بمبلغ كذا !! ..نظرت له وابتسمت .. هل أنت واثق من أن مصرفك سيكون موجودًا بعد ثلاثين عامًا ؟... هل سأكون أنا موجودًا ؟ .. هل مصر نفسها ستكون موجودة إذا استمررنا بهذا المعدل ؟
لم يرد .. ضحك في عصبية وقال: "دي حاجة بتاعت ربنا بقى .. هيء هيء هيء ..!"ـ

المشكلة هي أنك قد تكون ميسور الحال نسبيًا، لكنك لا تضمن أي شيء من أي نوع. عرفت جراحين زملاء لا يكفون عن العمل والكسب، برغم هذا يشعرون بقلق مريع من الغد، ومن اليوم الذي قد يصيرون فيه عاجزين عن العمل، فالجراح مثل أي شخص آخر (شغال على دراعه). مهما ادخروا في المصرف فمن الوارد أن يفيقوا ليكتشفوا أن ما ادخروه صار يساوي 31 جنيهًا لا أكثر، أو أن المصرف ذاته لم يعد له وجود

البورصة ؟.. هذا مكان مناسب كي تفلس فيه، وسوف تدرك وقتها أنه ليس مكانًا للاعبين الصغار بل هو مكان لعب العمالقة الذين يخصصون مبلغًا لا بأس به للخسارة

من اشتروا عقارات صاروا عاجزين عن التصرف فيها بسبب الافتقار إلى السيولة .. أعرف أشخاصًا يملكون أراضي وشققًا لكنهم عاجزون عن بيعها برغم ارتفاع سعرها كل يوم.. من الممكن أن يجدوا من يدفع على أقساط لكنك تعرف جيدًا أنه لن يدفع سوى قسط واحد ويكون عليك أن تلجأ للتقاضي وأن تقضي باقي حياتك في المحكمة

وماذا عن افتتاح مشاريع صغيرة ؟.. في شارعنا تجد في كل يوم مكبرات صوت ودي جي وتصوير فيديو وحلوى توزع، وقبلات على الخدين وخيلاً ترقص مع افتتاح محل جديد. ثم تجلس في المحل فتاة شاحبة سيئة التغذية بالشبشب الزنوبة تنتظر أي زبون .. بعد شهرين يُغلق هذا المحل بسبب الكساد وتبدأ الدورة من جديد. الدورة التي لم يستفد منها سوى مصور الفيديو والدي جي

أتكلم هنا بالطبع عن الأشخاص الذين يكسبون نسبيًا، ولديهم رأس مال صغير يريدون أن يضعوه في شيء مضمون، فماذا عن الذين يعيشون من اليد إلى الفم وهم يتزايدون كل يوم ؟

كنت أمر جوار طابور من طوابير الخبز، عندما رأيت ذلك الرجل الأصلع ممزق الجلباب ذا الستين عامًا يخرج من الطابور بولادة عسرة حقيقية .. فمه مفتوح في لهفة والعرق يبلل جبينه وهو يحتضن كومة من أرغفة الخبز في حنان ووله حقيقيين .. صورة مجسدة للخلاص والفرحة والظفر
رأيته يتوقف إلى جوار الرصيف لحظة ليتأمل جيدًا في روعة ما حققه، وفي اللحظة التالية رأيت على دراجة ذلك الصبي الذي تشي ثيابه بأنه حرفي، ينقض على الرجل ليخطف بضعة أرغفة من الكومة وينطلق مبتعدًا بسرعة البرق. في ثوان تحول وجه الرجل إلى الحسرة المجسمة ودموع الغيظ احتشدت في عينيه لكنه صار عاجزًا عن الغضب أو السباب .. شيء ما في عينيه يشي بأنه فقد إنسانيته فلم تبق لديه من عاطفة إلا الجوع والظمأ

 قلت لنفسي: الحمد لله أنني لست المسئول المباشر عن هذا الرجل ولا الفتى السارق. برغم هذا كل واحد فينا مسئول .. يجب أن تتذكر هذا وأنت تدخل فراشك ليلاً

خطر في ذهني عمنا مكسيم جوركي وما كان سيكتبه لو رأى هذا المشهد. بطبيعة الحال كان أقدر على رؤية هذه التفاصيل، وقد قرأت له منذ زمن سحيق مجموعة قصصية رائعة اسمها (مخلوقات كانت رجالاً) ترجمة (سعد توفيق) تحكي عن مجموعة من النماذج البشرية التي (أكل عليها الدهر وشرب وقضى حاجته) – على رأي بلال فضل الذي أفتقده كثيرًا – وهذه النماذج تعيش كلها في مسكن رخيص الثمن شديد القذارة أقام فيه الكاتب لفترة ما من فترات شبابه الصاخبة. بالفعل هي مخلوقات كانت رجالاً وكان يمكن أن تحصل منها على نفع أكبر بكثير من الوقوف ساعات في طوابير الخبز أو سرقته

قررت أن أكتب في الأسابيع القادمة عن هذه  المخلوقات التي كانت رجالاً في عالمنا هذا، والتي أفقدها الفقر الكثير من إنسانيتها .. أكتب عنها لأنني لا أملك أن أقدم لها شيئًا آخر ... وللحديث بقية

(2)

القصة واقعية تمامًا، لكن لو كانت قصة بوليسية ولو كان كاتبها أحد أساطين القصص البوليسية من وزن (أجاثا كريستي) أو (إيلري كوين)، لكان اسمها (قضية سرقة الحقنة الشرجية)، و لبدأت كما يلي

أشعل المفتش (أرشيبالد مكالستر) من سكوتلانديارد غليونه وجلس في مقعده الذي كان مقعد طبيب القسم منذ دقائق، وقال للطبيب مفكرًا
ـ"ما زلت لا أفهم القيمة المادية لهذه الحقنة الشرجية حتى يقوم أحد بسرقتها .."ـ
قال الطبيب : "لا قيمة لها على الإطلاق .. عامة هي مجرد كوز صديء من الصفيح يتصل بخرطوم، ولدينا واحدة فقط في قسم الرجال وواحدة في قسم الحريم. نحن لا نستطيع الاستغناء عنها لأننا ننظف قولون مرضى الغيبوبة الكبدية بانتظام، وعامل القسم هو الذي يجري هذه العملية. منذ أسبوعين تبرع أحد فاعلي الخير للقسم بحقنة شرجية أنيقة (زي العروسة) لونها أزرق جميل .. هكذا صار لدينا ثلاث حقن شرجية، لكن مشكلة الروتين والبيروقراطية بالنسبة لهذه الهبات هي أنها لا تدخل دفاتر العهدة إلا بعد إجراءات معقدة .. وهذا يعني أنه لا صاحب لها .. كلما ابتعنا شيئًا بالجهود الذاتية وقعنا في ذات المشكلة، وسرعان ما يُتلف أو يسرق"ـ

ـ"من الممكن أن يحتفظ بها الطبيب في خزانته .."ـ
ـ"هذا يعقد الأمور أكثر .. لأنها مطلوبة طيلة الوقت تقريبًا .."ـ

فكر المفتش قليلاً ثم طلب استدعاء عامل القسم
دخل العامل متوترًا وقبل أن يوجه له أحد أي اتهام راح يقسم أغلظ الإيمان أنه لا يعرف أي شيء عن مصير الحقنة . فقط هو كان يضعها في الحمام .. يعلقها فوق ماسورة الماء الصدئة وقد استعملها عشر مرات في يوم الجريمة

ـ"في العاشرة مساء أمس دخلت الحمام مع عم (شحاتة) لأجري له الحقنة لأن ابنه غير موجود، هنا فوجئت بأن الحقنة ليست في مكانها .. لقد جن جنوني وفتشت كل مكان في القسم .. هكذا اضطررت أن أستعمل الحقنة القديمة"ـ
سأله المفتش (مكالستر) وهو يعيد إشعال غليونه: "هل لاحظت أن هناك من يهتم بها بين مرضى القسم ؟"ـ
قال العامل: "كلهم .. منذ ظهرت بلونها الأزرق الجميل والكل ينظر لها بإعجاب واشتهاء.. حتى إنني أنذرت حكيمة العهدة من أنني أخشى أن تُسرق .. قالت لي إن هذه ليست مسئوليتها .."ـ

بالنسبة للمفتش كان العامل بعيدًا عن دائرة الاشتباه لأنه يتعرض لإغراءات كثيرة مع أجهزة أغلى ثمنًا ومنذ أعوام طويلة. يجب أن تنحصر دائرة الشك في الوجوه الغريبة عن القسم
راح يفكر وهو يتأمل سحب الدخان
ـ"هذه سرقة محيرة .. ما الذي يمكن أن يفعله المرء بحقنة شرجية قذرة استعملها العشرات قبله ؟.. إن بيعها صعب جدًا على ما أظن .."ـ

يمكن أن يسرقها المرء لو أراد أن يفتتح مستشفى خاصًا لكن هذا يعقد الأمور لأنه قد يؤدي لاتهام الأطباء كذلك. وفجأة بدا أنه وجد طرف الخيط .. طلب من الطبيب قائمة بأسماء المرضى الذين تقرر خروجهم اليوم .. كان هناك ثلاثة مرضى .. مريض منهم واسمه (بيومي أبو سمك) يتلقى حقنًا شرجية بانتظام
طلب المفتش أن يرى عم (بيومي) هذا، وكان المريض العجوز يجلس فوق فراشه الذي فرش عليه جريدة، وفوق الجريدة انتثر خليط من الأرز والفول والخضار وبقايا الدجاج والجبن القديم .. طعام المستشفى مع الطعام الذي يرسله أهله.. إنه يجلس القرفصاء حتى أنك لتحسب قدمه الغليظة الحافية صنفًا من أصناف الطعام الذي يأكله. . جوار الرجل كانت حاجياته التي حزمها بانتظار قدوم أسرته ليعيدوه لقريته

ـ"بسم الله .."ـ
قالها عم (بيومي) لمفتش سكوتلانديارد لكن هذا لم يرد المجاملة، ومد يده يعبث في حاجيات الرجل ثم بحركة درامية مد يده إلى لفافة صغيرة وفتحها، وأمام عيون الجميع ظهرت الحقنة الشرجية الزرقاء.  صاح الجميع في ذهول غير مصدقين أن هذا العجوز الطيب يمكن أن يسرق شيئًا ثمينًا كهذا، ودمعت عينا عامل القسم وهو يدرك أن العجوز خدعه. لو كان الأمر بيده لشنقه هنا والآن

قال المفتش وهو يشعل غليونه  في رضا: "الأمر منطقي وبديهي يا عزيزي (واطسون).. الحقنة الشرجية لن تُباع .. هناك في الغرب نوع من الجنس الشاذ اسمه
Enema sex
 لكنه غير معروف في بلدكم لحسن الحظ .. إذن من سرق الحقنة سرقها لاستعماله الشخصي فقط .. كي ينظف قولونه في بيته. هكذا ضيقت دائرة الاشتباه .. شخص يوشك على مغادرة المستشفى ويشعر بالذعر لأنه لا يملك ثمن حقنة شرجية يعالج بها نفسه في بيته
هكذا اختمرت فكرة الجريمة في ذهنه وأحسن التنفيذ وكاد يفلت بفعلته لولا أن المفتش (مكالستر) هنا
كان العجوز يبكي بحرقة، عندما تدخل الطبيب المقيم ملاحظًا: "أنا كتبت لك الخروج صباح اليوم فمن أين جئت بهذه الوجبة ؟"ـ
بصوت خفيض اعترف العجوز أنه سرق صينية من الفتاة التي توزع الوجبات لأنه كان جائعًا ، وقد أضاف للصينية بقايا طعام أمس

عمت السعادة الجميع بينما قال المفتش في رضا وهو يلبس معطفه
ـ"كانت من أعقد القضايا التي قابلتها في حياتي المهنية، لكن خلايا عقلي الرمادية لم يعجزها أن تحل قضية الحقنة الشرجية"ـ

كما قلت لك : القصة واقعية تمامًا لو أنك حذفت المفتش لأن التحقيق قام به الطبيب المقيم نفسه، وهي تثير أسئلة كثيرة عن مريض فقير وعامل فقير وممرضة فقيرة وطبيب شاب فقير في واقع يزداد قسوة كل يوم. عم (بيومي) الذي سرق حقنة شرجية باعتبارها نوعًا من الرفاهية يستحق مكانه بلا شك ضمن المخلوقات التي كانت رجالاً

من ضمن هذه المخلوقات – وما دمنا في عالم المستشفيات – ذلك الفتى الذي كان مصابًا منذ أعوام بمرض مزمن نادر يجعله يبقى في المستشفى فترات طويلة جدًا، وقد لوحظ أنه يختفي من فراشه والمستشفى كثيرًا، ويعود محملاً بأعذار لا تنتهي تدفع الطبيب المقيم إلى شطب عبارة (خروج هروب) التي كان قد كتبها في كراسة العلاج. لكن أشياء كهذه لا تظل سرًا .. وقد انكشف الأمر عندما لاحظ أحد الأطباء شابًا يتسول بقرب مسجد (السيد البدوي) على كرسي متحرك، ولاحظ أن الكرسي المتحرك قد كتب على ظهره بحروف واضحة (باطنة رجال) . الفتى لم يكن يفر من المستشفى فقط بل كان يفر بالمقعد المتحرك كذلك ليستخدمه أداة للتسول !. بالطبع سببت هذه القصة مشاكل لا حصر لها لعمال القسم ورجال الأمن الذين لم يستطيعوا فهم الطريقة التي كان الفتى يخرج بها كل مرة. حدث هذا منذ أعوام طويلة فلا أعرف إن كان الفتى ما زال حيًا أم توفي لكني أعرف أنه كان مدمنًا للبرشام كذلك. عندما تكون فقيرًا ومدمنًا فلا مفر من أن تتحول إلى لص أو متسول أو تاجر مخدرات.. هكذا تصير الأمور

ولنا لقاء آخر مع مزيد من المخلوقات التي كانت رجالاً في الأسبوع القادم

(3)

هل  تراها ؟.. بالتأكيد يمكنك ذلك..  من مكانك في الشرفة وكوب الشاي في يدك، تراها وهي تمشي في الشارع صباحًا وتمارس عملها اليومي

ما هو عملها اليومي ؟... التنقيب في أكياس الزبالة طبعًا .. الأكياس السوداء عدو البيئة إياها والتي يضعها سكان كل بناية أمام بنايتهم بانتظار قدوم الجرار، وهذه الأكياس هي هدف هذه المرأة التي لا اسم لها ولا وجه لها .. إن وجهها مغطى بطرحة سوداء، وهي تجد السير في حذر وقد تعلمت الكثير من طباع القطط الضالة وشراستها وحذرها وتوجسها الدائم.. قط أسود كبير يفتح الأكياس ويبحث فيها عن شيء يؤكل .. شيء يلبس .. فردة حذاء قديمة هنا وكيس من الخبز الذي انتهت صلاحيته هناك

تعرف أنه لو رآها أحد السكان لشتمها أو ضربها، لذا تختار هذه الساعة المبكرة من النهار حيث لا أحد سواها والقطط الضالة ، ومن خلفها يمتد أثرها .. أكياس فرغت من محتواها وقد اتسخ مدخل كل بيت من هذه البيوت .. لكنها كما قلنا تعلمت طباع القطط فلا يمكن أن يضبطها أحد أبدًا

من أين جاءت ؟.. أين تبيت ليلتها ؟.. الجواب سهل .. لقد جاءت من حيث يأتي هؤلاء .. تلك المخلوقات التي كانت رجالاً والتي تجدها في كل صوب وكل ركن

عندما تتوارى هذه المرأة – القط تظهر أم (آية).  أم آية تمارس عدة أعمال في وقت واحد، فهي تنظف السيارات الواقفة .. في الواقع هي تزيدها قذارة لكنها ترفع المساحتين علامة لا شك فيها على أنها أنجزت عملها. تبيع الشاي لبائعي الخضر وعمال البناء في كل مكان .. تبتاع الخبز لربات البيوت - عندما كان هناك خبز -  وتبتاع الخضر من السوق، وأحيانًا تجلس على الرصيف تقطف الملوخية أو تقور الكوسة لواحدة من ربات البيوت المشغولات. لا يتم تنظيف أية شقة في الحي كله إلا ووجدت أم (آية) تقف في الشرفة وهي توسع المراتب ضربًا .. أحيانًا تقوم بالصويت على من يموت من السادة كذلك وتشارك في غسل نسائهم

بما أن الفقر والمرض والإدمان هم عجلات دراجة ثلاثية، فإن أم آية لها ابنة مصابة بعيب خلقي في الصمام الأورطى وأختها مصابة بسرطان القولون، وهي نفسها مصابة بسقوط رحمي يجعلها تبول على نفسها باستمرار . لكنها لا تملك ترف الاعتراف بالمرض لأنها ترتجف من اليوم الذي لا تقدر فيه على العمل

قالت لي ذلك في اليوم الذي رأيتها فيه متورمة العين مع هالات سوداء كأنها حيوان (الراكون) الذي نراه في الموسوعات المصورة. قالت لي إن زوجها أوسعها ضربًا لأنها لم تعطه المال الذي كسبته
ـ"كل مرة يصرف القرشين على الطينة والمية .."ـ
بسذاجة بدا لي تصرف هذا الرجل شاعريًا .. إنه مولع بالزراعة إذن وهو اهتمام راق، لكنها ضحكت كاشفة عن فم لم تبق فيه سوى سن واحدة وأخبرتني في صبر أن الميه هي (البوظة) والطينة هي (الحشيش). هكذا رزقت هذه المرأة بالذات بزوج ينفق كل مليم تكسبه على الكيف، ولا يعمل على الإطلاق، لتصدق عليه مقولة (سوفوكليس) في مسرحية (أوديب) عن رجال مصر التي أثارت غيظي عندما قرأتها يومًا ما

ولهذا فهمت سر سعادتها البالغة يوم رأيتها تمارس عملها برغم أن وجهها كله كان متورمًا. قالت لي في مرح خفيفة كالعصفور
ـ"بالك ايه ؟.. مش أبو آية طلقني؟"ـ
أبو آية يمكن الخلاص منه، لكن كيف يمكن الخلاص من الفقر ؟.. وكيف تعيش اليوم وحصار الحياة يزداد ضيقًا يومًا بعد يوم ؟.. الله أعلم. لكنك تراها بسهولة وهي تحوم حول محل الجزار القريب من دارنا .. تقف على بعد خطوات وتنظر للحم في اشتهاء، وتكرر من دون مناسبة
ـ"كل سنة وانتو طيبين .."ـ
فتجهد ذهنك محاولاً تذكر أية مناسبة هذه .. لا توجد أية مناسبة دينية أو وطنية .. ربما هو عيد ميلاد الجزار ؟.. تكرر (كل سنة وانتوا طيبين) مئة مرة وتحوم من جديد، حتى تأتي اللحظة المصيرية التي يمد فيها الجزار يده إلى قطعة لحم تزن خمسة جرامات ولا تقبل أن تأكلها قطة محترمة، فيلفها في كيس ويناولها لها في اشمئزاز. تنطلق في منتهى السعادة عالمة أنها لن تذوق ذرة من هذا اللحم، لكن أولادها سيفعلون ... لقد شفّت هذه المرأة حتى لم تعد تريد أي شيء لنفسها بل لهؤلاء التعساء الذين جاءت بهم للعالم

في وقفتها عند الجزار شيء يذكرني بالقطط الضالة .. القطط التي تقف حول المحل مهمومة قلقة بدورها .. هكذا الفقر عندما يذيب الحدود لا بين الطبقات بل بين الأنواع ذاتها، حتى لتوشك أن تسمع ذلك القط الأجرب يقول لذلك القط الأعور: "الأخ ملقاط والا هجام ؟" وتوشك أم آية أن تموء

تنصرف أم (آية) فقط ليحتل مكانها أمام الجزار أبو (عماد) أو أبو (صلاح) .. معدل التقاطر قد صار عاليًا جدًا.. متسول كل ثلاث دقائق

من نهاية الشارع ترى (رضا) الصغير ذا ستة الأعوام قادمًا والمكوة تحت إبطه على قطعة خشب كانت مسند مقعد، وهو يرفع ذراعه عاليًا بشماعة عليها سروال مكوي .. بمعجزة ما يتمكن ألا يتسخ طرف السروال بالغبار برغم قامته القصيرة، وهو يدق جرس الباب ثم يستفيد من وقته بأن يشوط قطعة طوب صغيرة إلى أن ينفتح الباب. (رضا) يتمنى أن يلعب طيلة اليوم، لكن أباه يريد فعلاً المبلغ البسيط الذي يحصل عليه من هذا العمل، دعك من أن الأسطى (بيومي) ليس سيئًا ولا يضربه كثيرًا. تفتح له الباب ربة البيت وتسأله عن الثمن، لكنه مهتم أولاً بأن يسترد الشماعة .. هذا أهم ما في الموضوع والسبب الأول لتلقيه الضربات.  صوت البام بام طاخ طوخ يلفت نظره بشدة فيطل من فرجة الباب ليرى طفلين بثياب حسنة يلعبان (بلاي ستيشن)، فينسى نفسه ويزحف بضع خطوات ويندمج تمامًا مع الشاشة حيث دراجة بخارية تطارد سيارة وتطلق عليها النار

يتمنى أن تتأخر ربة البيت قليلاً لكنها تعود سريعًا وتعطيه المال وتفاحة فاسدة وجدت أنه من الأفضل أن تعطيها له بدلاً من رميها .. بهذا تجمع بين الإحسان والتخلص من التفاح الفاسد.  وينصرف رضا الصغير .. لا يعنيه أنه صغير السن جدًا .. لا تعنيه الأسئلة الكثيرة عن الغد وكيف يتعلم ويتزوج ويسكن .. لا تعنيه حقيقة أن هذه الأسرة التي تبدو ثرية قد بدأت تئن بدورها من الغلاء .. كل هذا لا يعنيه. ما يعنيه هو أنه سيعرج على الحارة القريبة ليلعب الكرة الشراب لمدة عشر دقائق مع الواد بطاطة، وسوف يزعم للأسطى أن صاحبة البيت هي التي أخرته .. إن المستقبل رائع .. رائع لدرجة لا توصف

(4)

موكب  الزفاف الفاخر يتقدم نحو مدخل قاعة الأفراح الكبرى، والعريس والعروس يتظاهران بالسعادة ، يحيط بهما أفراد الأسرة والأصدقاء، وقد خرج الجميع لاقتناص الفرص. ابن فلان بيه وابنة علان بيه .. إنه لحدث مهم حقًا. هناك تلك الفرقة التي تقوم بالزفة، وهم كالعادة مجموعة من الفتية يحملون الدفوف وفي وجه كل منهم أثر من مشاجرة قديمة بالمطاوي، ولا تفهم أي حرف من الذي ينشدونه سوى أن كل مقطع ينتهي بكلمة (الليلة).. يضغطون عليها لتعطي إيحاءات بذيئة غامضة. . من مكان ما تدوي زغرودة ويقذف أحدهم بقطع الشيكولاتة الفاخرة فوق العريسين فتتساقط على الأرض. هنا – من مكان ما وبطريقة ما – ظهر هؤلاء الصبية الثلاثة بثيابهم القذرة المرقعة .. وثبوا كالقرود من وراء الأشجار لينقضوا على قطع الشيكولاتة على الأرض. فما ان استعاد القوم رشدهم حتى انهالوا بالركلات على هؤلاء الثلاثة .. هؤلاء الأوغاد الذين شوهوا صورة الفيديو وطابع الرقي العام
ـ"وله يا ابن الـ .... وسع يا له !"ـ

للركلات مزية مهمة هي أنها تبقيك بعيدًا عن هذه القذارة .. لا تتسخ بذلتك ولا يداك
لكن الصبية تلقوا الضربات وهربوا وهم مفعمون بالسعادة .. لقد امتلأت الأيدي بالشيكولاتة وهذا هو ما يهم في الوقت الحالي. صديقي الأديب كان واقفًا ضمن الواقفين فنظرت له ونظر لي وعرفنا أننا نفكر في الشيء ذاته .. قلت له هامسًا: "(جوركي) بيناديني!" أي أنني تخيلت ما كان (مكسيم جوركي) سيكتبه لو رأى هذا الموقف .. هؤلاء الصبية آتون من عالمه بلا شك

من أين يأتون فعلاً ؟.. إلى أين يذهبون ؟.. لا أحد يعرف .. بعد أن يأكلوا الشيكولاتة سوف يبحثون عن شيء آخر يسرقونه، ثم ينامون في الشارع إلى أن يظفر بهم (توربيني) آخر يغتصبهم فوق سقف القطار التوربيني ثم يلقي بهم من فوقه ليموتوا .. هذا بالنسبة لسعداء الحظ منهم

بالطبع كل هذه القصص واقعية تمامًا ولا دور لخيالي فيها، لكني قمت بتغيير الأسماء. لم أنس بعد قصة (عادل) مريض الصدر الذي كان مصابًا بعدة كوارث في الرئتين، وقمت في جلسة علمية بعرض صورة الأشعة الخاصة به وعليها اسمه الكامل. يومها قالت لي د.(وفاء الشيمي) أستاذ الأمراض الصدرية: "كان يجب أن تحذف الاسم .. هو مش كفايه اللي هو فيه ؟". لم أنس عبارة اللوم هذه قط، وتذكرت أننا أحيانًا نعامل هؤلاء التعساء كأشياء حتى إن لم نتعمد القسوة

عم (حسن) واحد آخر من تلك المخلوقات التي كانت رجالاً
بواب البناية العجوز الطيب .. إنه واحد آخر ممن يعملون كل شيء في كل وقت لأي شخص .. يعيش مع زوجته وابنه في المدينة بينما يترك بناته مع عمتهن في قريته. إنه لا يستطيع أن يطمئن لوجود بناته المليحات مكتملات الأنوثة في هذه المدينة المليئة بالشباب الرقيع .. الشباب الذي يحلق شاربه ويركب سيارات فاخرة (أمه جايبها له) يصدر بها صوت فرملة عالية .. هذا دليل كاف على رقاعتهم، وعندما يمسح سيارة واحد من هؤلاء بالمنشفة فإنه يعرف يقينًا أن هذا الفتى ذاهب لممارسة الكبائر بأنواعها .. لا .. لن تصمد أية بنت من بناته أمام وغد من هذا النوع

فقط يسمح لابنه بأن يوجد هنا معه، وقد لمحت الطفل ذات مرة فأدركت أنه مصاب بمرض عضال .. لا أعرف ما هو بالضبط لأنني لست خبيرًا في أمراض الوراثة لكنه كارثة.  ولهذا أرسلته مع عديد من التوصيات إلى أحد أساتذة طب الأطفال من أصدقائي..  افعل كل شيء ولا تأخذ منه مليمًا .. أرجوك
يتصل بي أستاذ الأطفال مذعورًا بعد ما رأى الطفل .. هذه حالة لابد من دخولها المستشفى حالاً.. إنها حالة متقدمة من المرض النادر الفلاني، ولابد من أن تكون في المستشفى هنا والآن، وإلا فهو غير مسئول عما سيحدث
لكن عم (حسن) يرفض .. يرفض بإصرار ..  يقول لي
ـ"سعادتك أنا مش عايز له دخول .. أنا عاوز شوية برشام وإبر بس .."ـ
أؤكد له أننا تجاوزنا هذه المرحلة منذ زمن، وأنه لن يدفع مليمًا لأن المستشفى مجاني .. أستاذ الأطفال وعد بألا يدفع الرجل شيئًا .. لكن عم (حسن) مصر

هنا فقط أفهم الحقيقة: قطار الحياة سريع لا يسمح له بالقفز منه لمرضه أو مرض أحد من أسرته. معنى دخول المستشفى هو أن يستغنى عن زوجته عدة أيام لأنها ستكون مع الطفل. حياته لا تسمح بهذا الترف.. هناك أفواه جائعة في القرية تحتاج إلى من يطعمها، وهناك فتيات لابد من تزويجهن وتجهيزهن، وهو لن يقدر على ذلك في غياب زوجته. أما النقطة الثانية الأهم فهي أن الطفل بحالته الحالية يتيح له الظفر بما يهبه ذوو القلوب الرحيمة، أما دخول المستشفى فهو الخراب التام .. لم أصدق هذا التصور حتى أكده لي عدد من سكان العمارة: الرجل ليس راغبًا في العلاج بل هو راغب في التسول فقط .. لو أردت أن تخدمه فلتعطه ما تيسر من مال في جيبك، لكن لا تتفلسف بعقلك المترف الذي أتلفته الكتب، ولا تزد متاعبه وتشعره بأنه أب مقصر

من الغريب بالفعل أن الرجل صار يتحاشاني كالطاعون. لقد كانت حياته تسير على وتيرة منتظمة قاسية لكن يمكن التنبؤ بها، فجئت أنا لأشعره بأنه مقصر وأن هناك الكثير مما يقدر على عمله... هكذا لم يعد يطيق رؤيتي، وما زال طفله مريضًا وحيًا بمعجزة ما

المخلوقات التي كانت رجالاً .. هذه المخلوقات يرغمها القهر أحيانًا على أن تفقد بعض آدميتها، من ثم تصير أكثر قسوة .. هذه القصة لم أمر بها  لكن أحد الأطباء من أصدقائي الموثوق بكلامهم تمامًا عاشها كاملة بما تطرحه من علامات استفهام . الصغير (جمعة) مصاب بالتهاب رئوي متقدم وهبوط في القلب ..  أمه فلاحة تعسة نحيلة مذعورة يبدو أنها تعيش بمعجزة ما. تم دخول الرضيع ليلاً إلى قسم الأطفال وقلبه يكافح كي ينبض كل نبضة، وتم وضع قناع الأكسجين على أنفه الصغير لأنه الشيء الواهن الذي يبقيه حيًا.  جوار فراش (جمعة) أم أخرى محنكة أكثر فقرًا تجلس ورضيعها في حجرها وكان قد شفي تقريبًا .  إنها تراقب جارتها المذعورة أم (جمعة) وتمصمص بشفتيها وتوصيها ببضعة أشياء تنتهي دائمًا بكلمة (يا شابة) أو (يادلعدي)ـ
صديقي الطبيب يجلس في مكتبه،  وأم (جمعة) تترك رضيعها على الفراش إلى أن تجد دورة المياه في تلك الممرات المظلمة، وتطلب من جارتها المحنكة أن تعنى به. ينهض الطبيب ليدخل العنبر فيفاجأ بمشهد لا يفارق كوابيسه.. (جمعة) الصغير مقلوبًا على ظهره كسلحفاة أزرق اللون يجاهد طلبًا للهواء وصدره يعلو ويهبط بطريقة مثيرة للشفقة، أما قناع الأكسجين فقد انتزعته الأم المحنكة ووضعته على أنف ابنها هي !.. لقد اعتقدت أن الأكسجين شيء ثمين ومفيد للجميع، لهذا قررت أن تسرق بضعة أنفاس منه لرضيعها في غياب أمه .. لم تكن تنوي ترك (جمعة) حتى الموت .. بالتأكيد كانت ستعيد القناع في الوقت المناسب، لكن الفقر يولد غريزة (الاستخسار) حتى لو لم يكن رضيعها بحاجة لهذا

وما زلنا مع المخلوقات التي كانت رجالاً

(5)

خبر شديد الروعة نشرته جريدة الأهرام في 16 سبتمبر 2007، وهو يحكي التالي بالحرف
ـ"تعرض أحد تجار الصاغة بالعريش لسرقة منزله أثناء خروجه لشراء بعض الاحتياجات‏,‏ هذا علي الرغم من إحكام وإغلاق النوافذ والأبواب لأنه يحتفظ بالمجوهرات داخل منزله‏,‏ وبعد ساعة ونصف فقط عاد فوجد جميع المصوغات وتقدر بـ‏250‏ ألف جنيه قد سرقت‏.‏ أمر اللواء منتصر شعيب مدير أمن شمال سيناء والعميد علي أبوزيد مدير إدارة البحث الجنائي بتشكيل فريق بحث برئاسة الرائد أحمد رمضان رئيس مباحث قسم ثاني العريش‏,‏ وتبين أن أحد الطلاب وصديقًا له يقيمان بجوار منزل الصائغ شوهدا بعد السرقة مع مجموعة من أصدقائهما........"ـ

جميل جدًا .. هذا ما اعتدناه في الحوادث المماثلة .. طبعًا شوهد السارق وصاحبه في أحد الملاهي الليلية يشربان أغلى الخمور وينفقان بسخاء على الراقصات والليالي الحمراء.. لكن الخبر يقول
ـ".... شوهدوا بأحد المطاعم الكبري بالعريش يتناولون شاورمة ويشربون مياه غازية غالية الثمن،  وبسؤالهما عن مصدر النقود التي بحوزتهما انهارا واعترفا‏,‏ والطريف أن أحد اللصين وجه العتاب لزميله أثناء التحقيق: قلت لك بلاش شاورمة البوليس هيشتبه فينا..  وانت صممت عليها أهم قبضوا علينا"ـ

يا نهار اسود !... حتى اللصوص تدنى حالهم إلى هذه الدرجة ؟.. لم يقبض عليهما وهما يلعبان القمار في فندق فاخر، ولكن قبض عليهما وهما – هذان الوغدان الشرهان – يأكلان الشاورمة ويشربان المياه الغازية غالية الثمن. ثم ما هي المياه الغازية (غالية الثمن) هذه ؟.. (كانز) يعني ؟.. وهل أكل الشاورمة صار مصدر اشتباه يدفع مخبري الشرطة للشك في مصدر هذا الثراء ؟

هذان لصان أكثر غلبًا وبؤسًا من أية ضحية محتملة، والدليل أنهما جائعان .. سرقا ربع مليون فكان أول شيء فعلاه هو شراء ساندوتشي شاورمة .. والفتى الفطين يعرف جيدًا أنه قام بجريمة شنعاء بأكل الشاورمة، حتى أنه يوجه اللوم لصاحبه على هذا الاستعراض الأحمق الذي قاما به. ليس عندي تفسير لغرابة هذا الخبر سوى أن يكون ساندوتش الشاورمة في العريش ثمنه خمسة آلاف جنيه

تذكرت صديقًا لي يعد نفسه أنه لو رزق بمليون جنيه، فلسوف يكون أول شيء يفعله هو شراء كيلو من الكفتة والتهامه وحده، دون أن يشعر بتأنيب الضمير الذي يلازم المصري من الطبقة المتوسطة عند التهام اللحوم

تغير أنماط اللصوصية، والاهتمامات غير العادية لدى اللصوص تثير دهشتي وتعطي فكرة أفضل عن التغيرات الاجتماعية. في المقال الأول حكيت عن سرقة الخبز من الطابور بطريقة (اخطف واجر)، وبعد هذا قرأنا عن عصابة متخصصة في السطو على الخبز. هناك تنظيمات عصابية كاملة مهتمة بسرقة أغطية البلاعات .. السؤال المنطقي هنا هو مدى الاستفادة من غطاء بلاعة، لكن الإجابة هي أنها ثروة ثقيلة من الحديد الزهر يسهل بيعها. وهكذا تتحول الشوارع ببطء إلى غربال مليء بالثقوب، ونسمع عن السيدة الوقور التي مشت في شارعها ليلاً فسقطت في بالوعة.. لا تنس أن هناك من يسرق  اللمبات من أعمدة النور كذلك . هكذا وجدت هذه السيدة الوقور نفسها في موقف لا تحسد عليه، بينما سائق سيارة نصف نقل ابن حلال يربطها بحبل غليظ (سلبة) ويتعاون مع أولاد حلال آخرين على إنقاذها

هناك تلك القرية قرب مدينتي التي استيقظت على رائحة عطنة تجتاح المكان، وبالتدقيق والبحث اتضح أن هناك عصابة تخصصت في سرقة أبواب المقابر الحديدية .. يعني تصحو القرية لتجد أن كل مقابر أعزائها مفتوحة.  وماذا عن المطب الصناعي الذي اضطروا لإزالته لأن هناك من يسرق في كل مرة اللافتة التي تنذر بوجوده . هكذا تكررت الحوادث كلما اندفعت سيارة على الطريق السريع لتكتشف المطب فجأة، فيضغط سائقها الفرامل وتنقلب ..  ماذا يمكن عمله بلافتة كتب عليها (احترس .. أمامك مطب صناعي) ؟.. هناك بالتأكيد جهة ما تشتري هذه اللافتات ومعها كل أغطية البلاعات وبوابات المقابر

يعود ابني من الدرس الخصوصي مذعورًا ليخبرني أن صديقين له كانا يقفان أمام البناية التي يقطن فيها المدرس، عندما فوجئ أحدهما بمن يضع نصلاً حادًا تحت عنقه من الخلف ويأمره بأن يعطيه الهاتف المحمول وما معه من مال. ثم يفر هاربًا ليكرر الفعل ذاته بعد يومين .. يحدث هذا في الثانية بعد الظهر في أحد أهم شوارع مدينتي وأكثرها ازدحامًا، ولم يحدث في شارع مهجور مقفر ليلاً. يخبرني ابني أنهم أخبروا (المستر) الذي كان مدرس رياضيات لحسن الحظ، لهذا أخذ الفرجار العملاق الذي يدرسون به والذي يصلح كرمح.  ونزل إلى الشارع ليبحث عن اللص .. طبعًا لم يجده أحد ... لابد أن هذا اللص مخلوق كان رجلاً يومًا ما، ولابد أن البانجو أودى بعقله حتى يفعل هذا كله في الزمان والمكان الخطأ

في كارثة تسرب أسئلة امتحان الثانوية العامة في المنيا – ومصر كلها على الأرجح – نكتشف أن المتهم الأول وهو رئيس لجنة، قد حصل على رشوة من أربعة متهمين مقابل تسريب أسئلة امتحانات الثانوية العامة. هذه جريمة شديدة الخطر فلابد أنه تقاضى مليون جنيه على الأقل مقابل هذا .. لكنك تكتشف أنه فعلها مقابل 3600 جنيه كما ورد في جريدة الدستور عدد 27 يونيو صفحة 3. هذا نموذج فريد للسرقات الرخيصة .. كما كانوا يقولون: الشرف غال يجلب ثروة حقيقية لمن يبيعه. لكننا في هذه الحالة نقابل من يبيع الشرف بأرخص الأثمان أو بلا ثمن تقريبًا

ألا ترى معي أن هذه مخلوقات كانت رجالاً فعلاً ؟

وماذا عن ذلك الشاب الذي يقف على باب دورة المياه العمومية ليناولك قطعة صابون ومنديلاً ورقيًا مع ابتسامة متملقة ؟ .. طبعًا من أجل ما سوف تلقي به في علبة المناديل الفارغة جواره. باختصار هذا شاب مفعم بالطاقة والنشاط صارت مهنته في الحياة أن يتأكد من أن البك قضى حاجته جيدًا.  الشاب الآخر الغارق في العرق والغبار الذي يدق بابك ليعدك بـأنك لو اشتريت زجاجتين من منظف الأرضيات الفلاني فلك زجاجة ثالثة هدية .. وماذا عن الشاب الذي يستوقفك وأنت متعجل ليسألك وهو يسد الطريق سدًا عن (الملك الفرعوني الذي شيد من أجله تمثال رمسيس ). تقول بذكاء: رمسيس يا أخي .. فيصيح في انتصار: مبروك .. أنت فزت وسوف تحضر حفلنا غدًا وتنال جوائز قيمة، لكن عليك دفع عشرة جنيهات كتأمين .. في الحفل سوف تعرف الكثير عن نظام (التايم شير) الخاص بنا، وكيف يصير ذلك الشاليه الجميل ملكك للأبد أسبوعًا كل عام

أبتلع ريقي وأفتح النافذة طلبًا لنسمة من الهواء النقي. هذه المخلوقات التي كانت رجالاً تتكاثر ويمكن أن تجدها في كل ركن وتحت كل حجر. سوف تأخذ حقها في الحياة بأي شكل ممكن عندما تدرك أن الموت لأطفالها محتوم ولا مفر منه  .. أكثرها ما زال يقاوم بعناد مثل (أم آية) وبعضها خرج على الناس شاهرًا سيفه فعلاً ..  إما أن تجد نفسك بينهم غدًا وإما أنت عدو لهم

عندها أين سنكون وماذا سنفعل نحن الذين لن نستطيع الفرار إلى سويسرا ؟.. أرجو من الأخوة الاقتصاديين العباقرة أن يردوا