قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Thursday, August 5, 2010

مصحة الدكتور أنطوان - 2


==================================


اسمه "مصطفى الصاوي"ـ

في الأربعين من عمره، وقد بدأ الشعر يتراجع عن مقدمة رأسه.. له عينان جاحظتان اعتدت أن أربطهما بالجنون. هناك يجلس في تلك الغرفة الشبيهة بالزنزانة.. ليست مبطّنة كما توقّعت؛ لكنه مقيّد بسلسلة إلى الجدار، ويتربع على الفراش كقرد


هزني منظره.. فيه شيء غير إنساني يبعث القشعريرة في النفس، وأنا لم أرَ إنساناً مقيّداً بسلسلة من قبل

قال "د. مراد" الطبيب الشاب ذو الشعر الثائر
ـ"مصطفى الصاوي.. اضطراب ثنائي القطبية مصحوب بميول عدوانية شديدة.. لقد هشّم رأس زوجته، ثم أتبع ذلك بأطفاله.. في العادة لا يرسلون لنا حالات بهذه الخطورة؛ لكنه من أسرة ثرية ذات نفوذ.. وقد أحضروه هنا.. نحن نتعامل معه بحذر شديد"ـ

ثم أضاف بلهجة حازمة
ـ"طبعاً أنت مسئول مسئولية كاملة عن أسرار المرضى.. لا أسماء من أي نوع، ولا حروف أولى يمكن تخمينها.. لو وصفت حالته فلتقل (أحد المرضى).."ـ

ثم أشار لي محذّراً وقال
ـ"لا صور طبعاً.."ـ

هنا تدخلت نادية في حدة كعادتها
ـ"لحظة.. ما تأثير الكلام عن المريض بهذه العبارات الواضحة أمامه؟.. أليس هذا حمقاً؟"ـ

قال الطبيب في مقت واضح
ـ"لا تحسبي أننا لم نفكر في هذا، ومعلوماتنا أنه لا يفهم ما نقول.."ـ

نظرتْ لي عينا مصطفى الجاحظتان وفتح فمه وارتجفت شفته السفلى.. ثم أدار ظهره لنا

في خطوات ثابتة غادر الطبيب الزنزانة.. ومشى في الردهة قاصداً زنزانة أخرى

كان هناك ممرض ضخم الجثة أدار المفتاح في الباب.. لا توجد كوّة ترى منها المريض كالتي نراها في السينما

الغرفة كانت مظلمة.. هناك فراش وهناك مكتب صغير تجلس إليه امرأة.. امرأة في الثلاثين من عمرها نكشت شعرها تماماً.. يستحيل أن تعرف إن كانت جميلة أم قبيحة، يكفيك فخراً أن تعرف أنها امرأة.. وكانت تكتب في ورقة بلا توقّف.. ثمة قط صغير يغفو على الفراش

نظرتُ إلى الورقة المقلوبة فرأيت كتابة بخط لا يُقرأ
ـ"ساعدوني ساعدوني ساعدوني ساعدوني ساعدوني ساعدوني"ـ

كتابة صغيرة متراصّة توحي لك بأنها نقش أو زخرفة.. قال الطبيب الشاب بلهجة لا مبالية
ـ"مدام "عفاف".. حالة بارانويا متقدمة.. تؤمن أن كل الناس يريدون قتلها، وأن رئيس الولايات المتحدة أرسل من يدسّ لها السم.. السبب أنها وصلت لسرّ القنبلة السينية.. القنبلة التي يمكن أن تمحو قارة من الوجود.."ـ

ثم مال على المريضة وسألها
ـ"مدام عفاف.. هل تركيب القنبلة معك هنا؟"ـ

نظرت له في رعب ولم تقل شيئاً

قال وهو يشير إلى القط النائم
ـ"لا نحتفظ بحيوانات هنا؛ لكننا مرغمون على ذلك لأنها لا تأكل إلا بعد أن يأكل القط.. تُطعمه شيئاً من الطعام ثم تنتظر.. في كل مرة تتوقع أن يموت لكن هذا لم يحدث"ـ

وغادر الزنزانة فخرجنا معه، قالت نادية وقد بدا أن مرض الأنثى هزّها بقوة.. هي ترحّب دائماً بجنون الرجل لأنها تعتبر الرجال مجانين أصلاً
ـ"على قدر ما أرى هي ليست خطيرة.."ـ

قال الطبيب بلا مبالاة
ـ"لقد خنقت شقيقتها التي كانت تقيم معها أثناء نومها.. هل هذا خطير بما يكفي؟.. يمكن في أية لحظة أن تعتبرك عميلاً للمخابرات المركزية.."ـ

ثم مشى في الردهة؛ فنظرتُ في توتر إلى نادية لأرى إن كانت تشاركني مشاعر التوتر.. بالطبع لم تنظر لي ولم تلتقِ عينانا قط.. تلاقي العينين يتطلب حداً أدنى من التفاهم  بين الروحين

اتجه الطبيب إلى غرفة ثالثة.. ثم غيّر رأيه فتجاوزها.. بعد غرفتين أخريين أشار إلى الممرض المخيف فأدار المفتاح في القفل.. فانبعثت رائحة لا تطاق كأنه قفص الأسود


بالداخل كان المنظر مروعاً لأن هناك فتاة تقف في ركن القاعة وقد قُيدت بسلسلة إلى قطعة حديد بارزة، وقد تمزقت ثيابها واستندت إلى الجدار.. تلهث كالوحوش بلا توقف.. حولها غابة من الفضلات البشرية.. إنها وحش بلا زيادة ولا نقصان.. عينان مجنونتان مسعورتان.. عصبية بالغة.. لعاب يسيل من الفم

ورأيت الممرض يتقدمنا وهو يخرج من جيبه جهازاً صغيراً.. قدرت أنه صاعق كهربي أو
Taser
مما يستعمل للدفاع عن النفس.. هذا الثور يريد الدفاع عن نفسه بأداة فلا بد أن الأمر خطير

قال الطبيب الشاب وهو لا يبعد عينيه عن الفتاة
ـ"هنا الجنون الرسمي.. سكيزوفرنيا متقدمة، أدت إلى أن اعتبرت الفتاة نفسها نمراً.. يمكن أن تنقضّ على أي واحد لتمزق عنقه.."ـ

هنا صاحت "نادية" في عصبية
ـ"هذه طريقة غير بشرية.. على الأقل يمكنكم تنظيف فضلاتها.."ـ

قال الطبيب في هدوء
ـ"نحن نفعل ذلك كلما سنحت الفرصة؛ لكنه يستدعي تخديرها بطلقة منوّمة على شكل
Dart
 أولاً.. لقد هاجمت عاملة نظافة عندنا منذ عام، ولم يكن المنظر جميلاً.."ـ

كنت أنا قد قرأت عن حالات التصوّر الذئبي (لايكا أنثروبي) عندما يعتقد المريض أنه ذئب؛ لكن لم أسمع موضوع النمر هذا.. المشهد ملأني رجفة

الغرفة التالية كان فيها "سامي"ـ

رجل نحيل أصلع ضئيل الجسد يذكرك بـ"وودي ألين" كثيراً.. يجلس أمام رقعة الشطرنج للأبد ويلعب مباراة أبدية مع نفسه

ـ"محاسب في الخمسين من عمره.. اكتشف أن زوجته تخونه مع أقرب صديق له.. من حينها يلعب الشطرنج بلا توقّف.."ـ

قالت نادية
ـ"لا يبدو مبرراً لوضعه هنا كما أتصور"ـ

ـ"عندما يجد نفسه في وضع (كش ملك)، يُغمد سكيناً في عنق أي شخص يراه!.. ثم يبدأ مباراة جديدة"ـ

نظرت للرقعة وحمدتُ الله على أن ملكه يبدو آمناً

قلت للطبيب الشاب
ـ"هل المصحّة لا تضم إلا هذه الحالات المخيفة؟"ـ

.......
يتبع