أعتقد والله أعلم أن السيد الوزير أحمد زكي بدر سعيد جدًا بحملة الهجوم عليه في شتي الصحف، لأنه يؤمن أنه كلما كثر خصومه ازداد قوة، والأبطال يُقذفون بالطوب، أما الورود فتُلقي علي الموتي .. إلخ .. تلك العبارات التي برغم بلاغتها جعلت من المستحيل علي المخطئ أن يعترف بأنه كذلك .. هو لا يخطئ إنما الآخرون موتورون وحمقي. دعك من العبارة اللعينة الأخرى «حزب أعداء النجاح». ومن الواضح من أحاديثه الصحفية وصوره أنه رجل راض جدًا عن نفسه، ولن يتراجع أبدًا عن أي شيء يفعله .. والنتيجة أنه سيدخل التاريخ باعتباره الرجل الذي دمر عدة دور نشر كبري، وحول الفجالة كلها إلي معارض أدوات صحية أو ساحة انتظار سيارات
عرفت المؤسسة العربية للطباعة منذ العام 1993، والقارئ يعرف أنها من أهم ناشري الكتب الخارجية، لكنها كذلك كانت أول جهة نشرت لي أعمالي القصصية، ولهذا ترددت طويلاً في كتابة هذا المقال، لأنني لست طرفًا محايدًا. القارئ حساس علي كل حال ويمكنه أن يميز المقال المكتوب لمنفعة خاصة، والمقال المكتوب لأن الحقيقة يجب أن تتكلم، ولأننا نتكلم عن مصير آلاف العمال. أقول إنني عرفت المؤسسة العربية منذ العام 1993، ورأيت عن قرب كيف يعمل بها مئات من الموظفين والفنيين والعمال، وعرفت مدى الجهد الذي بذل في كل تفاصيل هذا الصرح ، ورأيت كيف تطبع الكتب الدراسية هناك وكيف يراجعون كل التفاصيل وكيف يحرصون علي الإتقان بحيث لا يتسرب خطأ واحد. صناعة عريقة صقلتها خبرة الأعوام ، مع التنافس الشريف بين عدة دور علي تقديم كتاب محترم يفي بحاجات التلميذ وينقذه من الكارثة المسماة الكتاب المدرسي. أنا جربت تدريس العلوم لأولادي من كتب المدرسة، وكنت على وشك قطع شرايين معصمي لولا أن اكتشفت كتابًا خارجيًا رائعًا - ليس من إصدار المؤسسة علي فكرة - فوجدته مكتوبًا بإتقان وبراعة، وقد تحاشي بالضبط كل أخطاء الكتاب المدرسي. وقد كتبت من قبل عن أخطاء فادحة وجدتها في الكتب المدرسية، وبعد أربعة أعوام وجدت الكتب كما هي لم يتغير شيء
هناك قانون من قوانين مورفي الساخرة يقول «كل شيء ناجح يجد من يوقفه»، وقد كان مشروع الكتب الخارجية ناجحًا حتي جاء السيد الوزير المصمم علي الحركة لمجرد الحركة
عرفنا أن السيد الوزير أصدر قراراً بفرض رسوم ملكية فكرية عن اشتقاق الكتب الخارجية من نظيرتها المدرسية تبدأ قيمتها من 400 ألف جنيه وتصل إلي مليونين و 250 ألف جنيه «والرقم كان 600 جنيه فيما سبق». أرقام مرعبة تبدو كالكوابيس.. ملكية فكرية لماذا بالضبط؟... هل وزارة التربية هي التي ابتكرت قواعد النحو أو قانون فيثاغورس أو تاريخ ألمانيا ؟.. وهل ستقوم الوزارة بسداد هذه المبالغ لبلانك وأرسطو وسيبويه وأبي العتاهية؟
الكتب الخارجية تحاول تقديم المعلومة بطريقة تتحاشي كل أخطاء الكتاب المدرسي، وآخر ما يرغب فيه مؤلفوها هو أن يوجد أي تشابه بين كتبهم وكتاب الوزارة، لأن معني هذا أنهم فشلوا. لكن المعلومة متوافرة للجميع. وأعتقد أن أي كاتب محامِ يمكنه إثبات فساد هذه المطالبة. الأمر يذكرني بمحاولة بيع الهواء أو بيع الفراغ الذي تحتله أجسادنا، وهو لا يخرج عن محاولة جلب المال لخزانة الدولة بأي طريقة كانت، أو ببساطة القضاء علي هؤلاء الناشرين، وهو الاحتمال الأرجح
تعاون أربعة وعشرون صاحب دار نشر ومؤلف مناهج وموزع كتب ووجهوا إنذارًا قانونيًا علي يد مُحضر لوزير التربية والتعليم، يحذرونه من مغبة هذه الجباية. والرقم الذي أثار رعبي هو سعر النسخة الواحدة من الكتاب الخارجي كما قدره الناشرون بعد دفع الجباية، والتي تصل إلي ما بين 350 و600 جنيه للجمهور، ومعني هذا ببساطة أن الكتاب الخارجي سيتوقف للأبد. والأهم أن هذا الموسم ضاع علي الناشرين فلم يعد الوقت يكفي لأي شيء .. علي أن أواجه العام الجديد مع أولادي بكتاب المدرسة الرديء ولا أعرف كيف. ثم ما دستورية هذا القرار؟.. وكيف لا يمر علي مجلس الشعب؟
هناك حالة عامة من السخط في البيوت، سوف تبلغ ذروتها عندما يبدأ العام الدراسي دون كتب خارجية، وعندما يكتشف الناس أن الكتاب المدرسي هو الحل الوحيد أو الموت .. هل هذا أنسب وقت للسخط الجماهيري يا سيدي الوزير وقبل الانتخابات؟
والآن تأمل معي نتيجة تنفيذ هذا القرار العبقري
ـ1ـ انقراض الكتاب نهائيًا، لأن كتاب المدرسة لن يتغير .. النتيجة ازدهار المذكرات من طراز «صاروخ الفرنسية» و«طوربيد الفيزياء».. رواج غير مسبوق لمذكرات الدروس وماكينات تصوير المستندات. الجيل القادم من الطلبة لن يمسك بكتاب أبدًا
ـ2ـ تدمير كل هذه المؤسسات وتشريد العاملين بها وعددهم يقدر بالآلاف .. يعني السيد الوزير جاء ليهدم بجرة قلم كفاحًا دام ثلاثين عامًا أو أكثر، وجبالاً من تراكم الخبرات. وهكذا سوف تلحق هذه المؤسسات بكل ما تم تدميره في مصر .. علي كل حال هي ليست أهم ولا أعز من مجمع الألومنيوم الذي باعوه بملاليم
ـ3ـ بدء العصر الذهبي الحقيقي للدروس الخصوصية .. إن المدرس الذي لن يصير مليونيرًا في عهد السيد الوزير لن يصير كذلك أبدًا. هكذا سوف تتكلف الدولة عدة مليارات إضافية
ما زالت الدروس الخصوصية تلتهم ميزانية كل بيت، وقد صرح الوزير في حماسة منذ أيام بأن الدروس الخصوصية مشكلة غير قابلة للحل «المؤتمر الأول لأبناء المصريين بالخارج المنعقد بالأسكندرية». ما زال أولياء الأمور عاجزين عن فهم مصير أبنائهم في متاهة الثانوية العامة الغامضة، حيث كل خيار قد يودي بابنك للجحيم. ما زال التلاميذ يكتبون «لاكن» و«نقض فني» و«ذالك» و«فالننهض» حتي بعد دخول الجامعة .. ما زال الكتاب المدرسي رديئًا مليئًا بالأخطاء ومرتبًا بطريقة تثير الأعصاب
حل هذه المشاكل بالنسبة للسيد الوزير يتلخص في ضربة واحدة: تدمير الكتاب الخارجي وتحويل الفجالة إلي ساحة انتظار سيارات. بالرغم من أن هناك حلولاً عديدة للاستفادة من خبرات هؤلاء، وجهدهم الصادق. هناك خبير تربوي اقترح أن توفر الوزارة نقود طباعة كتابها الذي لا يقرؤه أحد، وتعهد بالطباعة لدور النشر هذه وتشتري منها الكتب الأفضل اعتمادًا علي مناقصات وآراء خبراء. هذا حل ممتاز في رأيي .. الحل الآخر هو أن تطور الوزارة الكتاب المدرسي أولاً قبل أن تحرق كل شيء
كما قال الأستاذ لبيب السباعي في «الأهرام»: التعليم في مصر لا يخضع لسياسة وإنما يخضع لمزاج كل وزير، إلي أن يذهب فيأتي من بعده ليبدأ كل شيء من جديد في اتجاه مختلف تمامًا .. والسؤال هو: إلي متى؟. فقط أرجو أن يتوقف كل هذا، قبل أن يأتي الوزير الجديد ليكتشف أن تحويل الفجالة إلي ساحة انتظار سيارات كان خطأ فادحًا، ويتساءل: كيف سمحت الحكومة بذلك؟