قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Wednesday, September 22, 2010

حسب الهوية


أتذكر راجفًا القصة التي حكاها لي أحد المصريين عن صديق له، ذهب إلي بيروت للهو في أعوام الحرب الأهلية المنحوسة. ركب سيارة نقل عام فكان من حظه الأسود أن استوقفتها في شارع جانبي مجموعة من الشباب الملثمين المدججين بالسلاح .. راحوا ينزلون ركاب السيارة واحدًا واحدًا فيسألونه عن ديانته ويفحصون أوراقه، والمشكلة هي أن باقي ركاب السيارة لا يعرفون الإجابة .. هذا يتركونه ينصرف، وهذا يأخذونه علي جنب إلي جوار الجدار فيذبحونه بالسونكي كالدجاجة .. كان هذا كمين «إعدام حسب الهوية» من الكمائن التي انتشرت في لبنان وقتها. قل لي بربك ما هي الإجابة الصحيحة؟.. ما هي الإجابة الصحيحة؟.. بسرعة !.. هل الصواب أن تكون مسلمًا في هذه اللحظات أم مسيحيًا؟.. لم يعرف صاحبنا الإجابة قط لأن دوره جاء .. وعندما وقف وسط الجثث المذبوحة لمن سبقوه، وعندما طلبوا منه أوراقه ظهرت دورية من الشرطة؛ ففر المعتدون ونجا بمعجزة شبه سينمائية.. عاد المصري علي الفور إلي وطنه، ويحكي صديقي أنه ظل أعوامًا يجلس في غرفة خافتة الإضاءة يحملق في الجدار ولا يتكلم .. لقد احترق جهازه العصبي ولا تثريب عليه 

من انتصر في حرب لبنان ومن الذي فرض كلمته بعد كل هذه الدماء؟.. لا أحد يعرف. ما أعرفه يقينًا هو أنهم يحلمون بهذا المستقبل لمصر ويسعون له سعيًا حثيثًا متحمسًا. المجد للكراهية والحقد والدماء، وليتشرب الأسفلت دماء أبنائنا .. فقط كلما رفع أحد المثقفين -مسلمًا أو مسيحيًا- صوته محذرًا مطالبًا بالتعقل اتهموه بأنه متخاذل وضد الدين .. هنا يجد المسلم الذي يطالب بالتعقل نفسه في موقف حرج عندما يعرض أحد الغاضبين عليه خطابًا من موريس صادق أو مقالاً لأحد أقباط المهجر، ويقول له:«انظر لترى كم يكرهوننا!»ـ

اعتدت أن أقول إن معاملة المسيحيين في مصر غير متوازنة، فهناك تعصب في الشارع لا شك فيه، وهناك تدليل لا شك فيه لدى الجهات الأمنية. وقد نشرت هنا خواطر طالب جامعي مسيحي يصف ما يشعر به عندما يسمع الشتائم تنهال علي دينه من زاوية جوار بيته، وأعرف كيف كان الطلبة المسيحيون يعاملون في اللجان الشفوية في الكليات، لكن في الوقت نفسه حكيت عن ضابط حرس الجامعة الذي يهدد الطالب المسلم المعتدى عليه كي يتنازل عن المحضر الذي يريد تحريره ضد المسيحي الذي كاد يفقأ عينه ... هناك عدم توازن طيلة الوقت، وهذا يؤدي إلي اختلال واضح، وقد كتب د. علاء الأسواني في مقاله الأخير يحلل العلاقة المعقدة بين الدولة والكنيسة، حيث تستعمل الأخيرة مع الدولة طريقة العصا والجزرة .. اعتصامات في الداخل وضغوط من أقباط المهجر، وفي الوقت ذاته تأييد كامل للنظام وفكرة التوريث

قضية وفاء قسطنطين وقضية كاميليا جعلتا الشارع المصري يغلي من الناحيتين، والسبب الرئيس في رأيي هو الصمت الزائد المتعسف من الكنيسة في القضية الأخيرة بالذات. كان الكل يتكلم والترتيب للمظاهرات والوقفات الاحتجاجية يجري، بينما الكنيسة صامتة تمامًا علي طريقة «إنهم يقولون .. دعهم يقولون»، وكانت تكفي بضع كلمات لتهدئة الأمور وكان يكفي النفي أو الإثبات .. لكن كل ما فعلوه هو أن صرح أحدهم: «لقد تم غسل مخها ونحن نغسل مخها المغسول!.».. هل هذا كلام؟.. لا غرابة في كون العنف في النفوس بلغ مبلغًا لا يوصف، وقد كتب الأستاذ فراج إسماعيل في موقع المصريين يقول إنه لا يملك معلومات كافية تسمح له بالكتابة عن كاميليا، خاصة أن لديه كصعيدي يعرف بيئتها جيدًا، ما يدعوه للتحفظ علي ما يُقال، فكادت الصفحة تحترق من الهجوم الذي انهال عليه، مع قدر لا بأس به من الشتائم. كمية عنف لا توصف .. وفي النهاية ظهر فيلم غامض تنفي فيه كاميليا إسلامها، مما جعل الجميع يتحولون إلي خبراء في علم الفراسة وتحليل الصورة ويؤكدون أن هذا الفيلم مزيف.. أحدهم قال إنه طبيب وقد قام بتحليل صوتها علي جهاز كشف الكذب فوجدها كاذبة «جهاز كشف كذب من دون قياس نبض وضغط دم!!». لو أرادت الكنيسة أن تحسم الأمور لظهرت كاميليا في النور الساطع وفي برنامج جماهيري محترم لتتكلم ، ولسوف يحسم الأمر.. هذا لو كان ما تقوله صادقًا فعلاً

زاد الطين بلة مع تصريحات الأنبا بيشوي الأخيرة في «المصري اليوم». لقد اعتدت سماع هذه الأشياء من موريس صادق وسواه من أقباط المهجر، حتي صرت أشعر بقلق لو مر أسبوع ولم أسمعها، لكن الكلام هذه المرة يأتي من ثاني أهم سلطة مسيحية في مصر .. الرجل الذي يعرف جيدًا ما يقول ويعنيه حرفيًا .. لقد استفز هذا الكلام المثقفين، فتأمل ما وقعه علي نجار المسلح وسمكري السيارات والخباز

اكتشفت أشياء مثيرة فعلاً من هذا الكلام .. أنا ضيف علي مصر وأبي ضيف .. وجد جد جدي كان ضيفًا.. بل الرئيس مبارك نفسه ضيف .. صحيح أن المسيحيين يمثلون 6% من تعداد السكان - حسب إحصاء أجراه مسيحي - فنحن المسلمين ما زلنا ضيوفًا منذ 1400 سنة !.. حتي أهل البلاد الذين أسلموا صاروا ضيوفًا فجأة !.. ولماذا لا نقول إن المسيحيين ضيوف علي عبدة آمون وإيزيس وعبدة زيوس وأبوللو من بعدهم..؟

الأنبا بيشوي يكرر نفس فكرة أقباط المهجر عن الغزاة العرب الذين جاءوا ليستولوا بالسيف علي البلاد من أهلها.. بصراحة لا أصدق أبدًا أن أي دين يمكن أن ينتشر بالسيف في بلد مهم ذي كثافة سكانية عالية مثل مصر، وإلا فهي فترة قصيرة ثم يعود الدين الأصلي .. المسلمون لم يحاربوا في إندونيسيا ومعظم جزر جنوب شرق آسيا ذات الكثافة السكانية المخيفة، وكل من يحاول فرض عقيدة علي هذه الشعوب نهايته «زي الطين» كما قال الجنرال مكارثر يومًا ما، فكيف أسلم هؤلاء جميعًا. الإسلام دخل مصر بتفاعل كيميائي بطيء جدًا دام عشرات العقود، وعن طريق ملاحظة أهل البلاد للاختلاف الواضح بين سلوك الجندي المسلم وسلوك الجندي الروماني البلطجي .. وككل التفاعلات الكيميائية لا الفيزيائية، صار جزءًا من تركيب هذا البلد ولا يمكن أن يخرج منه أبدًا

لو صارت مصر كلها مسيحية ورحل المسلمون الضيوف كلهم للجزيرة العربية، فهي ليست النهاية، لأن الأنبا بيشوي يشن الحرب كذلك علي البروتستانت الذين يحاولون نشر دينهم عن طريق المسابح التي تضم الجنسين معًا !. لابد من رفض الآخر .. كنت ألوم بعض المسلمين علي هذا التفكير فاتضح أنه تفكير عام يشمل المصريين جميعًا .. كلمات الأنبا بيشوي -التي أتمني ألا تكون قد نقلت بدقة- تجعل من المستحيل أن تدافع عن المسيحيين، فكيف أدافع عمن يعتبرني ضيفًا؟

جاء البارود الذي يلقي علي النار من حوار أحمد منصور مع المفكر الإسلامي محمد سليم العوا في قناة الجزيرة. العوا مفكر محترم وكلامه يوزن بالميكروجرام ولا يخرج إلا بسبب.. انتقدت ذات مرة أحمد منصور علي حوار أجراه مع عالم أمريكي مشكوك في مصداقيته بصدد إنفلونزا الخنازير، وقلت إن كل ما يريده هو تقديم حلقة مثيرة، لكن الحلقة هذه المرة تستمد أهميتها من ضيفها الذي يعرف الجميع تاريخه. إن لكلامه ذات ثقل وأهمية كلام الأنبا بيشوي. بكلمات واضحة قال العوا إن هناك سفينة تم ضبطها من مباحث أمن الدولة قادمة من إسرائيل وعليها أسلحة ومتفجرات، وتعود ملكيتها لنجل وكيل مطرانية بورسعيد، وقال إن السلاح يخزن في أديرة الصحراء. لقد صارت الأمور معقدة ولم يعد الكلام عن الإسلاميين المفترسين الذين يقتلون المسيحيين العزل واردًا. لقد فقد أقباط المهجر أقوي ورقة في يدهم. الحلقة مليئة بالاتهامات الخطيرة والكل يحفظ ما قيل فيها علي كل حال

الآن صارت الأمور خطرة فعلاً، والنفوس مشحونة بحق وأنا أعني ما أقول

علي الدولة أن تكف عن هذا الصمت والخوف من وعلي مشاعر واشنطن وأعضاء الكونجرس، وأن تخبرنا فعلاً بما تعرف. كرر هيكل مرارًا أن لرئيس الجمهورية في مصر مهمتين يجب أن يستعمل فيهما كامل قوته وصلاحياته -لدرجة العنف لو اقتضي الأمر- هما ماء النيل والوحدة الوطنية. علي الدولة أن تثبت الوحدة الوطنية بأية طريقة كانت، وهي تعرف أن أسلوبها المتخاذل جعل النفوس تغلي، وأسباب الغليان متعددة لكن هذا أخطرها

علي الكنيسة أن تنفي هذا الكلام بوضوح وأن تقاضي العوا .. أنتم تقولون إنه كاذب يسعي للإثارة، فلتجعلوا المحكمة تؤكد أو تنفي هذا.. هذا الاستعلاء والغموض سوف ندفع جميعًا ثمنه فيما بعد، عند أول كمين إعدام حسب الهوية نقابله