كقاعدة لم ألق قط حتى اليوم عربياً هاجر للخارج وفشل
صديقي هذا لم يكن طالباً متميزاً قط في أية لحظة من لحظات الدراسة. أذكر أننا كنا في مشرحة الكلية قبل امتحانات التشريح النهائية، فاقتحم المكان في حماسة حتى بلغ الجثة.. فأشار إلى شريان عملاق في البطن وتساءل
ـ «ما اسم هذا الشريان؟»
نظرنا له في عدم فهم وحسبنا أنه يمزح، ثم قلنا له أنه الشريان الأبهر (الأورطى)، وهو شريان معروف أعتقد أن أي صبي في العاشرة يعرفه.. لولا ما في ذلك من مبالغة لاعتقدت أن اسمه مكتوب عليه. فبدت عليه الراحة وقال وهو يتنهد
ـ «هذه معلومات كافية لهذا اليوم!»
ثم انصرف!... هكذا كانت دراسته طيلة الكلية، وهي دراسة لا توحي بعبقرية زائدة أوخفية. بعد التخرج أخبرنا أنه ذاهب ليجرب حظه في فرنسا.. قابلته بعد ستة أشهر فأخبرني بشكل عارض أنه قد حصل على درجة الدكتوراه في الطب، وأنه نائب مدير مستشفى عملاق في ليون
قلت لنفسي: إنها تلك الطاقة الغامضة الموجودة لدى العرب، والتي تتفجر عندما يعملون في الخارج. صحيح أن الحصول على الدكتوراه من فرنسا خلال ستة أشهر أمر عسير التصديق، لكن من يدري أية قدرات غامضة لدى الإنسان العربي
بعد هذا رأيت ذلك المطرب المغمور الذي قال إنه قدم عروضه في أستراليا، ووقف الأستراليون يصفقون له ساعتين متواصلتين، وبعضهم شرع في تعلم العربية ليغني بذات اللغة الساحرة، ثم نال وسام الشرف من ملكة أستراليا.. هل هناك ملكة في أستراليا؟.. يؤكد للمذيعة أنها من دول الكومون ويلث وبالتالي هي مثل إنجلترا في كل شيء
هناك صديق لي اختفى منذ عشرة أعوام، ثم عاد ليؤكد أنه يملك أكبر دار نشر في كندا.. وهل لديك خبرة بالنشر؟ لا.. لكنه أقنعهم هناك أن عنده خبرة واسعة بالأمر.. هكذا عهد له الكنديون بدار نشر مفلسة فجعلها أهم دار نشر في العالم.. هل قابلت ستيفاني مايرز؟ طبعاً... هل قابلت ستيفن كنج؟ إنه متضايق مني لأني لم أتصل به منذ عام.. هل قابلت هارولد مكنزي؟.. طبعاً.. أقول له إنه لا يوجد كاتب باسم هارولد مكنزي، فيقول في استخفاف: بالطبع هناك واحد.. واضح أنك لا تتابع الأدب العالمي على الإطلاق وإنني لمندهش
الصديق الآخر طبيب.. إنه في صراع نفسي شديد لأن مدير مايو كلينيك توسل له كي يبقى معهم وأن يصير المدير من بعده.. بلغ الأمر بالمدير الوقور أن جثا على ركبتيه وانفجر باكياً.. يقول صاحبي في أسى
ـ «تصور أن يقبل هذا الرجل العظيم أناملك كي توافق على البقاء؟.. فعلاً صراع نفسي شديد.. شديد.. شديد!»
ـ «ولماذا لم تبق يا أخي؟»
يقول في كبرياء
ـ «أنت تقول هذا؟.. كنت أحسبك أكثر انتماء للوطن!»
كل من يذهب للخارج ينجح نجاحاً ساحقاً ويثير انبهار الغربيين.. لا أحد يفشل أبداً.. هذه هي القاعدة التي تعلمتها
هناك مشككون مغرضون يقولون إن معظم هذه القصص كذب.. من المستحيل التأكد منها، وهناك مثل مصري يقول: «اللي يعرف خالي يقول له»، بمعنى أنه لا أحد يعرف الآخر في الخارج ويمكن لأي واحد أن يزعم أي شيء.. لا يمكن أن تبلغ بك درجة الحماس أن ترسل لوزارة الثقافة الكندية تسألها عن دور النشر هناك، أو ترسل لمدير مايو كلينيك تسأله عن اسم نائبه الحالي. لكني أرفض أن يبلغ بي سوء الظن هذا الحد
لهذا أحجمت عن السفر للخارج أو العمل هناك. ماذا سيكون شأني وماذا أقول لأولادي لو فشلت؟ وكيف أنظر للمرآة عالماً أنني العربي الوحيد الذي لم يستطع نيل وسام الملكة، أوالفوز بمنصب مدير مايو كلينيك، أو الحصول على الدكتوراه في ستة أشهر؟
كلهم ناجحون عباقرة.. فلن أسمح لنفسي بأن أكون الفاشل الوحيد بينهم
يقول لي ذلك الشاب المتحمس: أريد السفر للخارج حيث البلاد التي تعرف قدري
أقول له في جزع: ولماذا تريد أن يعرف أحد قدرك؟ لا داعي للفضائح
لكني أعرف أنه سيسافر وبعد ثلاثة أشهر سيخبرني أنهم يريدونه رئيساً لوزراء أسبانيا، لكن وقته لا يسمح.. هكذا القصة دائماً