قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Thursday, January 13, 2011

ليلة شتاء - 2


قلت في ضيق وأنا أرتجف:
ـ "لا تحاول إقناعي أن ما حدث كان دعابة سخيفة".

ابتسم.. كان من الطراز الثقيل جدًا الذي لا يهتزّ لشيء.. الصراع العقلي معه ليس هينًا. قال في لهجة آسفة باطنها المزاح:
ـ "هذه هي الحقيقة.. لو كنا نعرف أنكم قادمون لقتلنا أحدًا!"

في هذه اللحظة كان آخرون قد جاءوا من الداخل..

هناك شابان في سنّ المراهقة امتلأ وجهاهما بالنمش، وكانا يلبسان منامتين صوفيتين ثقيلتين.. بعد هذا ظهر طفل مذعور في نحو السابعة.. النوم واضح تمامًا في انتفاخ العيون واحمرار الآذان والغربال الذي رسم معالمه على بعض الخدود....
ـ "ماذا حدث يا بابا؟"

نعم. هم إذن يستعملون لفظة "بابا".. قال الليثي في ثبات:
ـ "لا شيء.. عُدْ واكمل نومك.."

ومن موضع بالداخل رأيت شبح امرأتين.. يبدو أن هناك واحدة شابة وواحدة أكبر سنًا.. كانت كل منهما تلفّ ما يشبه "الطرحة" على رأسها على سبيل اتّقاء البرد والحشمة..

ـ "محمود.. هل من شيء؟ لماذا الشرطة هنا؟"

كان الصوت يدل على أنها في الأربعين وجميلة غالبًا.. لما لاحظ أننا ننصت صاح في حزم دون أن يلتفت للخلف:
ـ "ادخلي أنت وابنتك! ما شأنك بهذا؟"

انتظرت حتى توارت الأنثيان، وقلت وأنا أشير لحذائه:
ـ "هل تريد القول إن هذا الدم صدفة؟"

نظر للجلباب ثم قال باستخفاف:
ـ "وما في ذلك؟ إنني أذبح كل يوم.. نحن عدم المؤاخذة فلاحون".

ـ "في هذه الساعة؟ ووسط هذه العاصفة؟"

ـ "هل يوجد ما يمنع يا باشا؟ لا بد للنسوة من إعداد الخروف الذي سنطهوه غدًا".

ساد الصمت ونظرت لبسيوني ونظر لي.. لا يوجد ما نعمله بعد هذا..

- "هل أنت متأكد من أنه لا يوجد هنا شخص آخر؟ خادم أو خادمة؟ شخص يرقد كجثة الآن؟"

قال الليثي ضاحكًا:
ـ "لا شيء من هذا.. كل الموجودين في هذه البناية يقفون أمامك، أما عن المستأجرين في الخارج فلا أعرف عنهم شيئًا الآن، ولو ماتوا جميعًا فلن أعرف.."

تبًا.. أنا لا أحب مهنتي.. نظرت لساعتي ثم تأهّبت للخروج مما أضحك الجميع.. كأنني أكبر أحمق قابلوه في حياتهم، وكنت كذلك فعلاً


ـ "هل تمزح يا باشا؟ لقد فاض المصرف.. العزبة كلها صارت بحيرة، ولن تستطيع بلوغ السيارة أصلاً؛ لأنك ستهوي لتغوص في الوحل.. ولو تحرّكت السيارة فسوف تنغرس للأبد.."

في غيظ قلت:
ـ "وما الحل؟"

ـ "الحل أن تبقوا معنا هنا حتى تتحسن الأمور.. البيت بيتكم ونحن كرماء والله العظيم.. في الصباح ربما نجد طريقة للعودة.."

هذا لن يكون.. المبيت هنا.. زوجتي..

جرّبت الهاتف الجوال عدة مرات.. كأننا في الأعوام التي سبقت اختراع الشبكة أصلاً.. على كل حال زوجتي تعرف أنني أحقّق في جريمة قتل ولم أخرج لشراء سجائر.. أنا لا أحب مهنتي.. لا أحبها بتاتًا..

هنا صاح في زوجته:
ـ "يا إنصاف!!"

كأن المرأة تلقّت باقي الرسالة، وسرعان ما اقتادنا الخادم العجوز إلى غرفة مسافرين واسعة، فنزعنا أحذيتنا، وجلسنا على أرائك عالية..

ـ "خذا راحتكما.. البيت بيتكما".

وسرعان ما انفتح الباب ليدخل العجوز حاملاً دورقًا لغسيل اليدين وطستًا ومنشفة، ثم اختفى من جديد، وعاد هذه المرة بصينية عملاقة عليها طيور محمّرة كثيرة جدًا، وإناء تتصاعد منه رائحة البازلاء، وأرز ورقاق.. ما هذا؟ هل هم مستعدون بالأكل طيلة الوقت؟ وهل لا يوجد عندهم وقت بين الفعل وردّ الفعل؟ وضعوا الصينية على الأرض، فالتففنا جميعًا حولها.. ألم يتناول هؤلاء عشاءهم؟ أم هم مستعدون للعشاء في أي وقت؟

انقضّ بسيوني على الطعام طبعًا، أما أنا فاكتفيت ببعض لقيمات.. لست مرتاحًا لهذه الوجبة ولا هذه الأسرة أصلاً.. ثم إن الطعام الساخن سيؤدي دور المخدر معي وأنا لا أريد هذا.

ـ "كل يا باشا.. كل لتقاوم البرد.."

ثم أشار إلى الفتيين المراهقين اللذين كان كل منهما يعرق دبوس دجاجة بأسنانه

ـ "هذان سامي ومصطفى.. ابناي.. طالبان في الثانوي.. أما هذا الصغير فهو رأفت وهو في المدرسة الابتدائية.. لي ابنة واحدة في سنّ الجامعة، لكني بينك وبينك أكره أن أرى حريمي في الشارع والشباب ينظر لهن.. لقد اخترت لها عريسًا.."

قلت كلامًا عامًا على غرار "ربنا يخلّي".. ثم أعلنت أنني راغب في الذهاب للحمام.. 

نظر الليثي للعجوز الذي فهم على الفور، فأسرع يسبقني نحو خارج الحجرة.. وكان هناك قبقاب ناولوه لي، فصرت كأنني راقص كاريوكا في جزر الكاريبي.. ضوضاء رهيبة فعلاً...


الآن أمشي وسط ممرات مظلمة كئيبة.. من مكان ما ظهر مصباح كيروسين، فحمله العجوز في يده وهو يسبقني... 

لم تكن دورة المياه رائعة، لكنها أدّت الغرض على كل حال، ثم إن الظلام دامس والبرد شديد.. لا أهتدي إلا بالضوء الخافت من المصباح.. هناك دلو ماء غسلت به يدي، ثم خرجت من الحمام..

هنا رأيت العجوز ينظر لي في ثبات.. ماذا يريد؟

كان يشير بطرف خفي إلى غرفة جانبية.. بإصرار شديد كذلك..

ماذا يريد؟ يريد أن أنظر دون ضوضاء.. لكن ماذا هنالك؟

زججت برأسي في الغرفة و أشعلت عود ثقاب كان في جيبي..
هنا كتمت صرخة...

.......

يُتبع