قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Saturday, January 8, 2011

على هوامش الانفجار


ظللت  أنتظر حتى يهدأ الدخان الناجم عن انفجار كنيسة الإسكندرية حتى لا يكتب المرء وهو فريسة الانفعال أو اضطراب الأفكار، لكن من الواضح أنني سأنتظر طويلاً. قمت بتدوين بعض النقاط التي خطرت لي، وأعتقد أنني سأكتبها في مقالات طويلة يومًا ما . 


1- أنت تعرف كما أعرف أن المخطط لهذه العملية قد يكون هو الموساد أو القاعدة، لكن المنفذ في النهاية هو مصري مشحون ويؤمن يقينًا أنه ذاهب إلى الجنة فورًا.  المخطط لم يرسل رجلاً أجنبيًا لتنفيذ العملية، وعلينا أن نكف عن نغمة (هؤلاء ليسوا مصريين) مرة احدة لنتمكن من التفكير العقلاني. هي مؤامرة خارجية ربما .. لكنها وجدت أرضًا صالحة خصبة ظلوا يمهدون لها أعوامًا بانتظار هذه اللحظة المجيدة. كثيرون من الطرفين لعبوا دورهم في هذا السباق المحموم الذي نجني ثماره اليوم، والذي حذرنا جميعًا منه.  بالطبع ليس التعبير عن الاحتقان هو أن تفجر نفسك في دار عبادة، لكن من يقرءون هذا الكلام ومن يجلسون أمام الفيس بوك ليكتبوا (أنا مصري ضد الإرهاب) هم العينة العاقلة التي تتحكم في سلوكها، بينما سمكري السيارات ونجار المسلح والسباك لا يقرأون أصلاً، وانفعالاتهم نارية غير متعقلة.  كيف يتصرف مبيض المحارة المسلم عندما يقولون له إن الكنيسة تسجن المسلمات، وكيف يتصرف سروجي السيارات المسيحي عندما يقولون له إن المسلمين يفجرون المسيحيين الذاهبين للقداس ؟

2- والمشكلة أن هذه أرخص وأسهل طريقة لقلب حال البلد رأسًا على عقب. لا أعتقد أن حجرًا كان سيبقى فوق حجر لو - لا سمح الله -  حدث انفجار آخر ليلة عيد الميلاد. للأسف صار استقرار الوطن هشًا جدًا تكفي لقلقلته قنبلة صغيرة في كنيسة أو مسجد. هذه مشكلة يجب أن تعكف على حلها أعظم عقول الأمة. 

3- عملية تهييج المشاعر مستمرة .. هناك مواقع إنترنت تنشر تبريرات مطولة لتفجير الكنائس، والسبب أن هناك أخوات مسلمات أسيرات داخل الأديرة، وتملأ الصفحة باستشهادات من كتب الفقه والحديث تعطي الصفحة شكل الفتاوى الصحيحة. وتعليقات القراء كلها مؤيدة راضية. دعك بالطبع من ذلك الموقع الذي نشر قائمة بكل كنائس مصر وعناوينها، مع شرح مبسط بالصور لصنع المتفجرات من أدوات منزلية .. وهو يدعو الأخوة للارتجال على طريقة (لكل واحد كنيسته) .. ومن جديد هناك من يعلق ويهنئه. المشكلة هي أن السادية المريضة في النفوس تتنكر كثيرًا في شكل التدين، لكني أكرر ما قلته في مقالات سابقة وهو أنه كان بوسع الكنيسة إسكات هذا الكلام بخطوة واحدة. راجع النقطة السابعة.

4- وذلك الموقع على شبكة الإنترنت.. الموقع الذي لا هم له سوى إشعال مصر ومهاجمة الأقباط وإهانة دينهم وتوجيه السباب لهم. أرسلت مرتين لرئيس تحرير الموقع أخاطبه بـ (السيد مدير الموقع الرسمي للمخابرات الخليجية) فلم يرد ولا أعرف السبب !..   كتبت من قبل عن الهدية الرقيقة التي قدمها هذا الموقع للإخوة الأقباط في عيد القيامة المجيد منذ عامين: مقال يؤكد أن الصلب والقيامة لا صحة لهما.  المقال كتبته أستاذة تاريخ محترمة جدًا جدًا دأبت على كتابة مقالات تهاجم العقيدة المسيحية بقوة.  ألا يمكن أن نأخذ إجازة من مهاجمة عقائد الآخرين ليوم واحد فقط ؟..  هذا الموقع يعتبر نفسه في حالة حرب دائمة على الشيعة وعلى المسيحية وعلى كل مفكر إسلامي ليس منهم. بينما تُفسح المساحة لردود مجموعة مميزة يتبادلون مدح بعضهم البعض. لا أحد ينجو من الاتهام سواهم .. حتى كبار العلماء السنة يُهاجمون بشراسة شديدة.  الموقع مصري لكنه يفوح برائحة النفط لدرجة أنك قد تحترق لو أشعلت سيجارة وأنت تطالعه.  قلت كذلك:  هذه حرب مستعرة بلا نهاية ولسوف تحرق الأخضر واليابس .. الغريب أنهم يفعلون هذا وهم في مصر وليست أقدامهم في الخارج.. يعني هم أيضًا سوف يحترقون. كتبت هذه الكلمات وأنا أرى على شاشة التلفزيون عشرات من جثث الشيعة الممزقة في سوق بالعراق نتيجة عمل انتحاري، وغدًا ينفجر أحد الأسواق التي يؤمها السنة. هل هذا ما تريدون لمصر فعلاً ؟ ... هل هذا ما تقاتلون من أجله وتسهرون الليل ؟..  هل هذا ما تريدين يا دكتورة ؟.. بالطبع كانت الصفحة مليئة بصيحات الاستحسان والمديح لها لأنها (أثلجت صدورهم).  هناك مقالات تربح دائمًا لأنها تسبح مع التيار .. وتيار مصر الحالي هو التعصب. السباحة مع التيار وطريقة (ما يطلبه المستمعون)  أسهل شيئين في العالم ... بعد الحادث المروع الذي هز الناس، عندما رأى الناس الدماء والرماد والأشلاء، اهتزت نفوس البعض وتحركت بقايا الإنسانية لديهم، وكتب بعض المعلقين في هذا الموقع على استحياء يقولون إننا إخوة يا جماعة ومفيش حاجة. ثم عادوا لأصلهم، وبعد يوم واحد انهالت التعليقات الطائفية من جديد. طبعًا أي تعليق معتدل أو يطالب بالتعقل لا يُنشر.

5- على ذكر موقع المخابرات هذا، كتب  أكثر من قارىء يقول: "من المعروف أن النصارى هم الذين أحدثوا التفجير ...".. ثم انتقل لمواضيع أخرى كأنه قال بديهية لا داعي لإضاعة وقت أكثر فيها. هناك خاصية ثابتة في تفكير هؤلاء القوم هي أن القتيل هو مدبر ومنفذ جريمة القتل دائمًا !. لا يوجد قاتل أبدًا .. دائمًا القتيل هو الفاعل.  كمية ضيق أفق وتعصب وغباء لا يمكن وصفها. 

6- وكثيرون في ذلك الموقع تساءلوا: لماذا كل هذا الضجيج من أجل 23 قبطيًا بينما مات في حادث العبارة أكثر من ألف ولم نسمع هذا الضجيج. كأنه من الطبيعي جدًا أن تذهب للصلاة فتموت وتتناثر أشلاؤك. وماذا ستفعل أنت وماذا ستقول لو ذهب ابنك أو أخوك متأنقًا معطرًا لصلاة عيد الفطر ومزقته قنبلة لا سمح الله ؟. هل ستحتفظ بهذه الدقة العددية والحيادية ؟. من ماتوا في العبارة ماتوا نتيجة إهمال يبلغ مبلغ الجريمة، لكن لم يضع أحد قنبلة أو يثقب العبارة لتغرق. 

7- من الصعب أن تلوم المقتول كما يفعل الجميع، لكن بصراحة هل نعفي الكنيسة من المسئولية بعد ما تضخم دورها وصار واضحًا للجميع أنها دولة داخل الدولة ؟.  كلام عن حق المواطنة و الدولة المدنية وفي الوقت نفسه إصرار على أن تكون دولة دينية مستقلة، وكل هذا الصمت في قضية وفاء قسطنطين وكاميليا بينما الشارع يغلي، وهناك من ينفخون في الفحم من كل الجهات. صمت هو مزيج من العناد والتعالي (محدش يلوي دراعنا أبدًا) .. فلو لم تكونا أسلمتا كان يكفي أن تظهرا لتعلنا ذلك في برنامج تلفزيوني قصير (وليس في شريط فيديو سيئ الإضاءة يثير الشكوك أكثر مما يريحها)، ولو كانتا أسلمتا فما المشكلة في أن يعرف الناس ذلك؟. وفي الحالين كان الجميع سيصمت. لكن هذه الطريقة شحنت النفوس و افتقرت للحذر وجعلت الجميع يهتم بهذه القضية. ووسط هذا الاحتقان يظهر الأنبا بيشوي ليقول إن المسلمين ضيوف على هذا البلد.

8- ثم وسط كل هذا الشحن أيضًا يظهر الدكتور العوا في قناة الجزيرة ليقول أن هناك سفينة تم ضبطها من مباحث أمن الدولة قادمة من إسرائيل وعليها أسلحة ومتفجرات، وتعود ملكيتها لنجل وكيل مطرانية بورسعيد، وقال أن السلاح يخزن في أديرة الصحراء. لو كان هذا الكلام صحيحًا فلم لا تتكلم الدولة بصراحة ؟.. ولو كان خطأ فلماذا لا تتم محاسبة الرجل ؟.. وما هو التحريض إن لم يكن هذا ؟ "إنهم يخزنون السلاح والدولة رخوة لا تفعل شيئًا .. إذن تصرف أنت يا صاحبي .. دافع عن نفسك !!". ويبدو أن النظام يريد الحفاظ على حالة الغموض هذه لحسابات معقدة.

9- بعد أعوام من الشحن واستعداء الغرب ودعوته ـ بل التوسل له - لغزونا، والغزل في دولة إسرائيل العظيمة، وسب الإسلام ورموزه وإهانة رسوله بأقذع الكلام، ووصف مصر كأنها ساحة سيرك روماني كبيرة يلقى فيها المسيحيون للأسود، يجد موريس صادق المحامي المقيم في المهجر فرصة حقيقية .. الجنازة التي كان ينتظرها ليشبع لطمًا .. ومن الغريب أنه لم يتكلم كثيرًا هذه المرة. قلت مرارًا إن الرجل يقيم في الولايات المتحدة ولا يهمه ما يحدث هنا في مصر لمينا وجورجيت ..  يسعى جاهدًا لإشعال البلد ويبدو أنه قد نجح، وتناثرت أشلاء مينا وجورجيت على أرض الشارع فعلاً. 

10- إذن هم وجدوا رأس المنفذ المقطوع في بلكونة، وهو آسيوي الملامح أيضًا كما قالوا. حتى وإن قالت الكنيسة إن الرجل خادم فيها.  تذكرت حادث اغتيال المحجوب وكيف قالوا إن المنفذين أجانب، ورسموا وجوههم ونشرتها الصحف. كانوا كلهم زرق العيون لهم شعر أشقر ينسدل على الكتفين، كأنهم أفراد فرقة روك أمريكية جاءوا لقتل المحجوب ثم عادوا لبلادهم. بعد أشهر نشرت الصحف صورة صعيدي أسمر البشرة قتلته قوات الأمن وقالت إنه من قتل المحجوب. بعد أعوام كانت هناك قضية ضد صفوت عبد الغني تمت تبرئته منها، وفيما بعد قالوا إن مرتكب جريمة المحجوب ما زال غامضًا !. يا نهار اسود !. من الذي رأينا صورته وقد مزقته الطلقات إذن؟

11- هذا يقودك إلى استنتاج أن الداخلية وجدت أشياء خطيرة لا تريد الإفصاح عنها، أو أن هناك نوعًا من الرغبة في إثبات أن المنفذ أجنبي بأي شكل.

12- هذه عملية انتحارية .. لا مشكلة في هذا .. لكن ما نوع العمليات الانتحارية التي تقلب أو تحرق 12 سيارة ؟.. هل كان المنفذ يلف نفسه بعشرة أطنان من المفجر ؟، ولماذا يصر شهود العيان جميعًا على أنها سيارة مفخخة ؟

13- علينا كذلك أن نواجه الحقيقة وهي أن الأداء الأمني الحالي يحتاج إلى تطوير ثوري. ولربما إلى استقدام خبراء أجانب أو إرسال عدة بعثات للخارج.  هل استردت جارتك سلسلتها التي سرقها الفتى الذي يركب دراجة بخارية ؟.. وهل وجد جارك اللصوص الذين سرقوا شقته ؟. هل المخدرات تقل أم تتزايد ؟.. أين رضا هلال ؟.. من القاتل في حادث بني مزار ؟..  ومن قتل ابنة ليلى غفران ؟. ما مصير لوحة أزهار الخشخاش ؟.أعتقد أن الأمن يواجه مشكلة حقيقية في الأداء. وطريقة (اركن قدام وهات الرخص يا روح أمك) لم تعد كافية مع مشاكل مصر الحديثة.  ربما كان السبب فعلاً هو أن أمن النظام صار أهم من أمن المواطن.

14- برغم كل شيء وبرغم بشاعة الحادث والشرخ الأكيد الذي حدث في أمن المواطنين، فلا ننكر أن الحادث قرب بين عنصري الأمة كثيرًا .. لقد أدرك الجميع أن الوطن يضيع ولا مزاح هنالك، وأن منظر سوق في بغداد أو حسينية في الموصل ليس بعيدًا جدًا. وقد قام شباب الفيس بوك بتداول صور الهلال مع الصليب، مع اقتراح حملة الدروع البشرية التي تحمي الكنائس، ولغة الكلام نفسها تتغير.  المهم أن تستمر الصدمة والإفاقة فلا ننزلق من جديد لذات الفخ، وننام فلا نصحو إلا مع انفجار جديد.