الموضوع (هايف) فعلاً ولا يستأهل الكلام عنه، لكنه يثير الذعر فى النفوس ويدل على طريقة التفكير التآمرى التى سادت مصر. لا تحدثنى عن جوبلز .. ولا تقل شيئًا عن نظريات الكندى ماكلوهان الإعلامية الخطيرة، ولا تقل لى هل كان هيكل ناصريًا أم كان عبد الناصر هيكليًا .. كل هذا كلام فارغ .. هناك شخص واحد يحكم تفكير مصر فى هذه الحقبة، وهو الأقوى والرابح دومًا .. هذا الرجل هو توفيق عكاشة الذى نقل طريقة تفكيره للجميع. فعلاً لم يتصور أحد أهمية هذا الرجل الذى غير طريقة تفكير المصريين لعدة عقود قادمة.
عندما رأيت حلقات Arrivals الشهيرة فى يوتيوب، كدت أموت من الضحك على هذا الخليط من التذاكى والبارانويا والتظاهر بالعلم. كوع ماسورة الحمام فى بيتك رمز ماسونى .. القط يرسم ببوله أشكالاً ماسونية على السجادة .. إلخ ..
هكذا ذهلت عندما سمعت القصة الشهيرة التى تتهم شركة اتصالات معروفة بدس رموز إخوانية صميمة فى إعلان عرائس. لا أتكلم بالطبع عن تحقيق النيابة فى الأمر، فهى ستفعل ذلك مع أى بلاغ من أى شخص، لكنى أتحدث عمن فكر فى هذا أولاً، ثم العقليات الإعلامية التى صدقته أو تظاهرت بأنها تصدقه، وتعاملت مع الخبر بسعار إعلامى لا شك فيه. فالأمر يعطى فرصة للتذاكى ونفاق النظام وإذكاء نار البارانويا .. عندما ترى مذيعة تلك القناة ممسكة بالقلم كأنها تناقش رسالة دكتوراه، وتتحدث بجدية وخطورة وأمامها محام وقور رصين يؤكد لها أن (ماما توتو) هى الاسم الحركى لجماعة الاخوان المسلمين!.. عندما ترى هذا فأنت تدرك أننا فى مأزق حقيقى وأن إعلامنا قد ضرب القاع فعلاً.. الألعن هو أن أناسًا كثيرين فى الشارع اعتقدوا فعلاً أن هذا كله حقيقى .. ما دام يُعرض فى التلفزيون فهو حقيقى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. وراحوا يطرون شجاعة هؤلاء القوم الذين أنقذونا من السفاحين الذين يخططون لتدمير مصر. فكرت للحظة أن مصدر هذه الإشاعة شركة اتصالات منافسة .. ولربما الشركة نفسها تحدث هذه الضجة كدعاية عن نفسها بطريقة إعلامية نفسية غريبة، مثل الكاتب الذى يكتب مقالاً باسم مستعار يتهم روايته الأخيرة بالكفر والفحش. سبب هذه الشكوك هو أننى لم أصدق ما أراه وأسمعه.
النقطة الأخرى هى أن هؤلاء القوم يعكسون حالة من الذعر تسيء للنظام أكثر مما تخدمه. غباء الدببة التى قتلت صاحبها فعلاً. هذا الذعر الذى يذكرك بطريقة التفكير المكارثية عندما راح الأمريكان يرون الشيوعيين فى كل ركن وساد شعار (الشيوعيون تحت الفراش Reds under bed). هنا يتساءل المواطن: ما سر هذا الذعر لدرجة تفتيش الضمائر ولدرجة رؤية أشياء لا وجود لها؟.. هل يشعر هؤلاء القوم إنهم ارتكبوا جريمة ما وهى تطاردهم ليلاً نهارًا ؟. ما سر انعدام الثقة بالنفس البالغ هذا ؟. هذا السلوك الأخرق أثار غيظ من فى صفهم أصلاً، فالموقف لا يمكن الدفاع عنه بأى منطق. هناك درجة من الجنون يستحيل بعدها أن تبرر الأمور. وهكذا فهذا الحمق يجعلهم يخسرون كثيرًا جدًا جدًا.
من جديد تطفو إلى السطح الرواية المذهلة التى كتبها العبقرى جورج أورويل، والتى كان لى شرف ترجمتها وتقديمها للشباب منذ أعوام. بالطبع فهم القارئ أننى أتكلم عن رواية (1984)..
كتب د. جلال أمين فى كتابه عن نكبة الكويت: «شاهدت قناة CNN الأمريكية فوجدت فيها ما يجسم ما أكرهه فى وسائل الإعلام الحديثة: الكفاءة منقطعة النظير فى الكذب، والإلحاح المستمر على الناس لحملهم على تصديق ما لا يجب أن يصدق، والبرود وتضخيم أتفه الأخبار كأنها بالغة الأهمية، وتجاهل الأخبار الهامة فعلاً، ووجوه المذيعين تؤكد شعورى بأننى لست أمام كائنات بشرية بل هى وجوه من شمع تتحرك شفاهها طبقاً لنظام مبرمج سلفاً، ويستهدف لا الإعلام بل غسيل المخ أو بالأحرى تلويثه». لكن هذا أكد لى أن ما توقعه (جورج أورويل) قد تحقق بالفعل.... إنه حكى فى قصته (1984) عن أشياء مماثلة مما كان يقوم به البطل الذى كان يعمل فى وزارة الحقيقة (ما يعادل وزارة الإعلام) فقد كان عمله إبدال صورة بأخرى أو اسم باسم.. بل إن (أورويل) ذهب أبعد من ذلك فافترض وجود «لغة جديدة». تتعرض فيها بعض الكلمات لتغيير أساسى فى معناها بحيث تقبل المتناقضات كأنها ممكنة. تذكرت هذا حين سمعت تلك العبارة الرائعة (نيران صديقة) Friendly fire تمييزاً عن حالة الموت على يد عدو
«لقد تعذب صفوة الناس الذين يملكون القدرة على مشاهدة CNN وفهم لغتها الإنجليزية، بينما لم يشعر البسطاء بشيء، وهو يماثل نبوءة (أورويل) حين قال: إن عامة الناس (البروليتاريا) هم وحدهم الذين يحتفظون بقواهم العقلية بسبب عجزهم عن الفهم.. لقد بلعوا كل شيء ولم يلحقهم الضرر من ذلك .. لأن ما دخل أمعدتهم خرج منها دون أن يترك أثراً، وكأنه حبة ذرة تمر بجسد عصفور وتغادره دون أن تهضمه». هل تسمع هذه السطور العبقرية ؟.. البروليتاريا لم تتعذب ببساطة لأنها لم تفهم..
فى عالم أورويل يتم تضخيم كل ما هو تافه .. ويتم خلق خطر يخيف الناس كلما بدأ الناس يهدءون، وهناك ساعة كراهية يدخل فيها الناس غرفة مغلقة ليشاهدوا على الشاشة صورة رجل يدعى جولدشتاين هو عدو الدولة الأوحد، فيطلقون السباب ويقذفونه بالأحذية. ويتعلمون أنه لا أحد يحمينا من هذا الخطر المريع سوى القلب الكبير للأخ الأكبر. وكما يقول: « كان الشيء المخيف ليس كونك مرغماً على المشاركة، بل كونك عاجزاً تماماً عن عدم الاندماج فيه. سرعان ما تجد نفسك وقد تحولت إلى مجنون متعطش للدم». فيما بعد أدرك بطل القصة أن جولدشتاين لا وجود له بل خلقه النظام لأن الناس يحتاجون لعدو. من المشاهد الممتعة ذهاب الناس لرؤية شنق أعداء الدولة والاستمتاع بهم وهم يركلون فى لحظة الموت.
هناك عملية تزييف للماضى طيلة الوقت .. نحن فى حرب مع إيستاسيا .. ثم فجأة تتغير الصحف والكتب بشكل رجعى، لتكتشف أننا منذ زمن فى حرب مع يوراسيا ولم نحارب إيستاسيا قط. من يصفه الحزب بأنه (لا شخص) Unperson فإنه يختفى من كل السجلات وكل الكتب والمجلات. يعنى لو صار أخوك (لا شخص ) فأنت لن تستطيع أبدًا إثبات أن أمك انجبت اثنين.. لن تثبت أبدًا أنك كنت تنام معه وتأكل معه.
هذا هو بالضبط ما فعله الإعلام . بعد ثورة يناير بدا أن الناس تعلموا الدرس وعرفوا من كان يخدعهم، ومن صور لهم البلطجية فى كل مكان، وتامر بتاع غمرة الذى يتحدث عن ثوار (بيتكلموا انجليش) والصحفية التى تصف تدريبها فى الصرب، ورأى المواطن ركنًا خاليًا مليئًا بالأزهار فى ميدان التحرير منذ 25 يناير حتى 11 فبراير، باعتبار هذه هى الحشود التى تكلموا عنها. اليوم بعد ثلاثة أعوام بدا أن الإعلام كمن فى الذرة قليلاً ثم عاد لما كان عليه بالضبط بنفس التلفيق والنفاق .. لن يتغير أبدًا . لا جدوى. لقد قرر الإعلاميون أنه لا جدوى ومصر لن تتغير، وأن دورهم القديم هو الدور الوحيد المأمون والمربح.
لكن الأغرب أن الناس لعنت الإعلام الكذاب ثم عادت تصدقه بشدة .. كأن المصريين مستعدون أن يُلدغوا من نفس الجحر مئة مرة، ويُخدعوا من الإعلام ألف مرة، وهذا يدل على أن عددًا كبيرًا من الناس لم يُظلموا وإنما هم ينالون ما يستحقون بالضبط .. تركيبهم العقلى والنفسى لا يسمح بالتقدم، ولا يستطيعون إلا ان يكونوا فقراء مهانين خائفين للأبد