الإعلام المصرى الحالى هو سبب كل الحماقات وكل المصائب كالعادة، وهو قادر على أن يخرب مصر ليكون لديه موضوع شائق يناقشه فى الفضائيات. قديمًا كتبت قصة عن صحفى حوادث يذبح النساء ليجد أخبارًا مثيرة لصفحة الحوادث. هكذا أقنع الإعلام الناس أن نتيجة الانتخابات محسومة –وهى كذلك– لكنه بالغ فى ذلك جدًا لدرجة أن المواطن البسيط اقتنع أنه لا لزوم للمشى فى الشمس والوقوف فى طوابير. بعد هذا أصيب الإعلام بالذعر بلا تحفظ لدى رؤية اللجان الخالية، وبدأ الصراخ والتوسلات والتهديد وأطلقت حياة الدرديرى صيحتها الوطنية: «اتوكسوا» على شاشات الفضائيات.. استمر هذا يومين، حتى صار موضوع الساعة فى المحطات الأجنبية هو مقاطعة المصريين للانتخابات. فى اليوم الثالث عاد الإعلام يتحدث عن يقظة الشعب المصرى وأدائه الذى أبهر العالم كالعادة.
هذا التناقض الغريب أثار علامات استفهام كثيرة.. لماذا فقد الإعلام أعصابه لهذا الحد؟.. وكيف كان اليوم الثالث كافيًا لحل المشكلة؟. مبالغة فى الثقة ومبالغة فى الذعر ومبالغة فى التفاخر. تذكرت أيام كنت طبيبًا مقيمًا، وكانت هناك طبيبة تحضر رسالة ماجستير عن مرض نادر من امراض الكبد. كانت تتردد على مستشفانا ضمن عدة مستشفيات أخرى، لتسألنى إن كانت لديّ حالات تناسب رسالتها. كانت بحاجة لثلاثين حالة وهو رقم شبه مستحيل، وفى كل مرة كنت أعتذر فتهز رأسها فى يأس. ظللنا هكذا عامًا لم تجد فيه سوى حالتين. فجأة قابلتها متهللة مشرقة الوجه، فسألتها عن تقدم عملها.. قالت ضاحكة: «الحمدلله.. خلّصت الرسالة!». هكذا لم أصارحها بكل الأسئلة والشكوك التى ملأت رأسى. حالتان فى عام كامل ثم 28 حالة فى شهر!. لماذا تذكرت هذه القصة الآن؟.. لا تلمنى، بل لُم الإعلام الأحمق منفلت الأعصاب الذى يشبه الدبة قاتلة صاحبها حرفيًا. فجأة صار الاعلام يهتم بالصندوق جدًا برغم أنه منذ عام كان يرى أنه طريقة خائبة ضعيفة جدًا لممارسة الديمقراطية، وكتب معظم المثقفين أن الجماهير غالبًا حمقاء لا تعرف مصلحتها أمام الصندوق، وأن زخم الجماهير فى الشوارع هو المقياس الوحيد. اليوم اتخذوا الجانب المعاكس تمامًا وصار الصندوق بالغ الأهمية. لا ينكر واحد يملك ذرة من الصدق مع النفس أن السيسى هو مرشح رجل الشارع البسيط الفقير وأنه استطاع أن يصل له ببراعة.. يجب أن تعترف بهذا سواء كنت تذوب عشقًا فى السيسى باعتباره (عمهم وحابس دمهم)، أو تكرهه بجنون. بينما لم يصل السيسى لشباب الثورة الذين يحلمون بدولة مدنية عصرية، فهم أقرب لحمدين صباحى، وهم من يتهمهم رجل الشارع البسيط وهو يقود التوك التوك بأنهم عملاء الغرب وعاوزين يخربوها هم وسيدهم البرادعى و(مين حمدين ده كمان؟). ذهبت لعملى فى المستشفى يوم الأحد السابق للانتخابات فوجدت على الباب مشاجرة. هناك سائق تاكسى يحمل صورًا للسيسى، وهناك خمسة عمال يحاول كل منهم أن يظفر بصورة لنفسه كأنهم يتقاتلون على أرغفة خبز. وواحد يصيح:
ـ «وأنا ما ليش؟ أنا صورتى فين يا ولاد الـ....؟»
قلت لنفسى إن رأيى لا يهم ولا قيمة له.. هذا المنظر كاف ويدل على الفائز بلا شك. وبرغم هذا تجد الإعلام متوترًا جدًا ومذعورًا، كأن المطلوب هو إظهار زحام أمام اللجان فقط، ليراه الغرب فى الصور وليس الهدف هو العملية الديمقراطية ذاتها..
تذكرت من جديد رواية (البصيرة) للكاتب البرتغالى الحاصل على نوبل (خوزيه ساراماجو). كنت قد كتبت عنها فيما مضى وانتقدت ترجمتها، فلامنى مترجمها الشاب المهذب على ما كتبته، وقال لى إن المشكلة هى مشكلة أسلوب ساراماجو المعقد وليست الترجمة نفسها. أعتذر له بشدة. أرجو أن تقرأها فهى تدور حول بلد لم يذهب أحد فيه لصناديق الاقتراع حتى المساء! للأسف لا يتسع الحيز لتلخيصها.
نقطة ثانية أثارت انتباهى فى الانتخابات الأخيرة؛ هى التطور الذى أصاب الأغانى الوطنية مع الوقت.. مسافة شاسعة قطعتها الأغنية الوطنية من (اسلمى يا مصر إننى الفدا) حتى بلغت (بشرة خير). كل الأغانى الوطنية صارت أقرب لأغانى الميكروباص أو التوك توك، مع ذلك التشويه الإلكترونى المعدنى للصوت الذى يسمونه (المهرجانات).. لا شك أن هذا تصرف ذكي من صانعيها، لأن الأغنية الوطنية صارت شعبية متاحة للجميع وفى كل مكان، لكن هذا هبط بمستواها بالتأكيد..
النقطة الثالثة هى حالة الرقص الهستيرى التى أصابت الجميع. كما يقول الساخر الجميل أسامة غريب فى تويتة له: «المرأة التى تدلى بصوتها ثم تنصرف دون أن تقدم وصلة رقص لا تمثل هذا الوطن!». والحقيقة أنها ليست حالة انبساط، بل هى أقرب لما يسميه علماء النفس أيوفوريا Euphoria.. حالة من الانبساط ليس لها ما يبررها. هى حالة صناعية تمامًا إلا فى حالات نادرة. أحيانًا تسببها بعض العقاقير أو نشوة الانجذاب (كما فى حفلات الزار أو الحضرات الصوفية)، كما تحدث فى الاضطراب ثنائى القطبية، وهى من علامات نقص أكسجين الدماغ. لهذا يموت من يشم أول أكسيد الكربون من عادم السيارة وهو سعيد جدًا. هناك درجة عالية من التوتر والقلق بصدد المستقبل لدى المصريين، مع درجة كبت تجعل المرء يخرج كل هذا الضغط بأن يرقص أمام اللجان.
النقطة الرابعة هى أننا نمر بمرحلة فريدة من نوعها.. إن الخيط الفاصل بين من ينافق الحاكم وبين من يعتقد أنه يعمل لمصلحة مصر فعلاً.. هذا الخيط صار واهيًا جدًا أو غير واضح. فى الماضى كان هناك معسكر المنافقين ومعسكر الأخيار المعارضين، وكان الفارق واضحًا، لكن الوضع الأن يحوى قدرًا هائلاً من الخلط، كما أنه يكفيك أن تعارض النظام لتجد من يعتبرك عدوًا لمصر كارهًا لها!