رسوم الفنان «طارق عزام» |
هذا مشهد غريب، لكنه يحوي قدرًا لا بأس به من الرهبة والشجن. تردد الأوتار يتم من دون قوس .. يمكنك بسهولة أن ترجح أن هذه روح مصطفى غالبًا وقد عادت تمارس هوايتها الأثيرة.
للحظات راح عماد يصغي وبدأ يشعر بنشوة مع اللحن، ثم أفاق لنفسه! أنت أبله! لا توجد ذرة رومانسية في هذا كله. بل هو شيء مخيف!
مصطفى قد مات.. مات بطريقة مفزعة، وبأعنف شكل ممكن .. لماذا؟ .. لماذا تقتل الأشباح رجلًا مسالمًا يؤمن بوجودها؟ كان الرجل يعتقد أنه يتصل بكائنات فضائية أولًا ثم قرر أنه في الحقيقة يتصل بأرواح ..
هناك موضوع مهم في عالم الماورائيات هو التقاط أصوات الأرواح الذائبة في الأثير ويسمونه EVP أو الضوضاء البيضاء. اعتقد مصطفى أنه يلتقط هذه الإشارات .. وهذا يعني أنه تحول من عالم فيزيائي مدقق إلى مشعوذ يستحضر الأرواح .. أي ارتداد هذا!
لا يعرف كيف ولا متى أمسك بالكمان وهشمه ثم ألقى به في سلة المهملات، لكنه ظل يسمع صوت النغمات من صندوق القمامة .. الأوتار لم تحترق!
بدأت أجهزة الكمبيوتر تصدر صفيرًا .. وبدأت تلك الموجات ترتسم على شريط الورق وعلى الشاشة .. المزيد من الإشارات …
للحظات راحت البولترجايست تمارس عملها فبدأ النور الكهربي يتلاعب .. وراحت الثلاجة تعمل ثم تتوقف دون أن يرتبط هذا بانقطاع الكهرباء، حتى إنه اضطر لنزع القابس حتى لا تحترق ..
في الصباح دق الجرس. لم يكن قد تناول إفطارًا بعد وكان رأسه يدق كالطبل ..
على الباب ظهر ذلك الحرفي ومعه الصبي الذي يعمل معه، وكان يحمل مطرقة كبيرة مما يسمونه (دقماق) وإزميلًا وأشياء عدة ..
ـ«أريد أن تنزع لي بورسلين هذا الحمام»
أشعل الحرفي لفافة تبغ قوة الرائحة، وتأمل البورسلين في حسرة ثم قال:
ـ«إنه بحال ممتازة يا باشا .. تم تركيبه قريبًا جدًا .. هل تريد تركيب نوع أفضل؟ لن تجد أفضل .. رأيي بصراحة أنه حرام. أنا أريد أن أعمل وسوف يسعدني أن أعمل، لكني لا أطيق تدمير شيء جميل .. خاصة أن هذا النوع الأسبـ ….»
ـ«كفى !.. افعل ما أطلبه»
نظر له الحرفي كمن يرى مجنونًا، ثم طلب بعض الشاي وأطلق السباب في وجه الصبي، ثم دخل إلى الحمام. وسرعان ما راحت البناية تهتز كلما هوى الدقماق ..
بوم ..بوم !!
جلس عماد في الصالة متوترًا ينتظر. لا بد أنه دخن ألف سيجارة، وفي كل مرة ينتظر صرخة الرعب ومناداته .. لم يحدث شيء .. ألف مرة فتح الباب ليهدئ جارًا غاضبًا يهدد بطلب الشرطة .. كل شيء سينتهي فورًا فلا تقلقوا، والشرطة لم تعد تأتي لأي سبب على كل حال .. لحسن الحظ لا يعرف الجيران سكان هذه الشقة، ولا يعرفون مصطفى جيدًا .. وفي كل مرة يغلق الباب ويتنهد ..
نهض إلى جهاز الكمبيوتر وراح يراقب الأرقام .. ثم اتجه إلى الطابعة في الركن وراح يراقب الإضافات التي طرأت على الصورة إياها. بالفعل هذا ليس وجه امرأة على الإطلاق .. الثلث الأعلى كان يوحي بذلك.. لكننا هنا نرى شيئًا مختلفًا .. ليست خارطة كذلك .. إنها شيء مشوه يمكن أن تتبين فيه مدرستك الابتدائية أو نمرًا آسيويًا يتربص أو ملامح زوج خالتك.
بوم .. بوم!
كلما دوت صفارة الإشارات ظهرت بعض النقاط الجديدة على الشاشة وبدأ صف جديد يظهر في الصورة الغامضة ..
هذه ليست محاولة لرسم شيء .. على الأرجح هي إحداثيات فعلًا…
بوم ..بوم!
نهض إلى الحمام متوجسًا فوجد ألعن كومة من الحجارة والبورسلين المحطم يمكن وصفها .. وكان الصبي يحاول كنس الأرض بمكنسة بالية، بينما بدأت الأرضية الخرسانية تظهر عارية تمامًا بما فيها من تركيبات مواسير ..
قال الحرفي وهو يجفف عرقه بمنديل محلاوي متسخ عملاق:
-«أقترح أن تجد عمالًا يتخلصون من هذا الركام بسرعة يا بك .. إنه ثقيل جدًا على سقف الشقة تحتنا»
سأله في نفاد صبر:
ـ«ألم تجد شيئًا؟ ..»
ـ«مثل ماذا؟»
ـ«لا يوجد شيء تحت البورسلين؟»
تبادل الحرفي نظرة مع الصبي وحك رأسه ثم قال:
ـ«لو كنت تعتقد أن هناك كنزًا فلا شيء كهذا .. »
بالطبع لم يجسر على سؤاله عن بقايا جثة أو عظام .. لا أحد يسأل عن أمور كهذه. تذكر غرفة الدفن الخاصة بريا وسكينة حيث كانت هناك مقبرة مروعة تحت البلاط، وكانوا يشعلون البخور أربعًا وعشرين ساعة لحجب الرائحة .. العمال الذين قاموا بتكسير البلاط أصيبوا بانهيار عصبي..
من الواضح أنه لا يوجد شيء من هذا القبيل هنا …
أضاف الحرفي وهو يجمع أدواته:
ـ«يجب أن تحضر سباكًا يا بك.. صنابير الماء هنا تفتح نفسها وتغلق من دون تفسير .. ثم إن الماء ينزل أحمر كالدم في أوقات كثيرة.. لا بد من (فيلتر) للتنقية»
وسرعان ما كان قد انصرف مع غلامه، وقد تحولت الشقة المنظمة إلى كابوس ..
لا توجد جثث تحت الحمام .. نظرية مصطفى خاطئة .. لو كانت هذه شقة مسكونة فلأسباب أخرى ليس مقتل امرأة من بينها ..
مضى عماد يجوب الشقة كنمر يدور في قفصه متوترًا …
يفكر في عمق .. ولتفكيره مزية هي أنه يرتاد أزقة مظلمة لم يصل لها تفكير مصطفى المستنير الراقي..
فجأة هبط عليه الحل دونما سابق إنذار .. ودون تمهيد ..
كان في الماضي يقرأ أن الحياة مستحيلة على الكواكب الأخرى – باستثناءات محدودة جدًا – لأنه لا يوجد قدر كاف من الأكسجين والماء إلخ.. فكان وهو طفل يغتاظ جدًا. لماذا لا يكون الله قد خلق كائنات تتنفس النوشادر أو ثاني أكسيد الكبريت وتشرب حمض النتريك؟ بل لماذا لا يكون الله قد خلق كائنات بلا رئات أصلًا؟
قرأ عن اللقاءات الفضائية من النوع الأول والنوع الثاني والنوع الثالث .. كما سمع أحد علماء الفلك يتحدث في قناة تلفزيونية حول احتمالية أن يكون أول لقاء من النوع الثالث نعرفه مع بكتريا أو فيروسات فضائية. صورة الطبق الطائر الهابط الذي يخرج منه رجال بمسدسات ليزر وهوائيات .. هذه الصورة لن تتحقق أبدًا على الأرجح. الخيال الطفولي الذي صدق وجود مخلوق روزويل لا يتمتع بأرضية من أي نوع ..
لكن ماذا عن سكان فضاء فقدوا ماديتهم تمامًا؟ تحولوا إلى شكل فيزيائي لا نعرفه .. وهذا الشكل هو الذي مكنهم من عبور الفضاء الساحق بهذه البساطة، وعبر مسافات وسرعة لا يتصورها عقل بشري، ولا يتحملها جسد من لحم ودم؟ لماذا لا يكونون أقرب إلى شعاعات أو تيارات مغناطيسية أو صوت؟ لماذا لا يكون الغريب القادم من الفضاء ظاهرة فيزيائية محيرة لا أكثر؟
لم يخطر هذا الحل بذهن مصطفى قط ..
ربما لأنه كان أكثر دقة وأكثر علمية، قبل أن ينقلب تفكيره بالكامل أمام تلك الظواهر الباراسيكولوجية. لم يكن خياله جامحًا ..
الحقيقة أن الكائنات الفضائية لم تكف لحظة واحدة عن المجيء إلى عالمنا ..ومنذ بدء مشروع (سيتي)..
ما يلتقطه اللاسلكي ليس إشارات ترسلها تلك الكائنات ..
الحقيقة إنه الكائنات نفسها!
للحظات راح عماد يصغي وبدأ يشعر بنشوة مع اللحن، ثم أفاق لنفسه! أنت أبله! لا توجد ذرة رومانسية في هذا كله. بل هو شيء مخيف!
مصطفى قد مات.. مات بطريقة مفزعة، وبأعنف شكل ممكن .. لماذا؟ .. لماذا تقتل الأشباح رجلًا مسالمًا يؤمن بوجودها؟ كان الرجل يعتقد أنه يتصل بكائنات فضائية أولًا ثم قرر أنه في الحقيقة يتصل بأرواح ..
هناك موضوع مهم في عالم الماورائيات هو التقاط أصوات الأرواح الذائبة في الأثير ويسمونه EVP أو الضوضاء البيضاء. اعتقد مصطفى أنه يلتقط هذه الإشارات .. وهذا يعني أنه تحول من عالم فيزيائي مدقق إلى مشعوذ يستحضر الأرواح .. أي ارتداد هذا!
لا يعرف كيف ولا متى أمسك بالكمان وهشمه ثم ألقى به في سلة المهملات، لكنه ظل يسمع صوت النغمات من صندوق القمامة .. الأوتار لم تحترق!
بدأت أجهزة الكمبيوتر تصدر صفيرًا .. وبدأت تلك الموجات ترتسم على شريط الورق وعلى الشاشة .. المزيد من الإشارات …
للحظات راحت البولترجايست تمارس عملها فبدأ النور الكهربي يتلاعب .. وراحت الثلاجة تعمل ثم تتوقف دون أن يرتبط هذا بانقطاع الكهرباء، حتى إنه اضطر لنزع القابس حتى لا تحترق ..
******************
في الصباح دق الجرس. لم يكن قد تناول إفطارًا بعد وكان رأسه يدق كالطبل ..
على الباب ظهر ذلك الحرفي ومعه الصبي الذي يعمل معه، وكان يحمل مطرقة كبيرة مما يسمونه (دقماق) وإزميلًا وأشياء عدة ..
ـ«أريد أن تنزع لي بورسلين هذا الحمام»
أشعل الحرفي لفافة تبغ قوة الرائحة، وتأمل البورسلين في حسرة ثم قال:
ـ«إنه بحال ممتازة يا باشا .. تم تركيبه قريبًا جدًا .. هل تريد تركيب نوع أفضل؟ لن تجد أفضل .. رأيي بصراحة أنه حرام. أنا أريد أن أعمل وسوف يسعدني أن أعمل، لكني لا أطيق تدمير شيء جميل .. خاصة أن هذا النوع الأسبـ ….»
ـ«كفى !.. افعل ما أطلبه»
نظر له الحرفي كمن يرى مجنونًا، ثم طلب بعض الشاي وأطلق السباب في وجه الصبي، ثم دخل إلى الحمام. وسرعان ما راحت البناية تهتز كلما هوى الدقماق ..
بوم ..بوم !!
جلس عماد في الصالة متوترًا ينتظر. لا بد أنه دخن ألف سيجارة، وفي كل مرة ينتظر صرخة الرعب ومناداته .. لم يحدث شيء .. ألف مرة فتح الباب ليهدئ جارًا غاضبًا يهدد بطلب الشرطة .. كل شيء سينتهي فورًا فلا تقلقوا، والشرطة لم تعد تأتي لأي سبب على كل حال .. لحسن الحظ لا يعرف الجيران سكان هذه الشقة، ولا يعرفون مصطفى جيدًا .. وفي كل مرة يغلق الباب ويتنهد ..
نهض إلى جهاز الكمبيوتر وراح يراقب الأرقام .. ثم اتجه إلى الطابعة في الركن وراح يراقب الإضافات التي طرأت على الصورة إياها. بالفعل هذا ليس وجه امرأة على الإطلاق .. الثلث الأعلى كان يوحي بذلك.. لكننا هنا نرى شيئًا مختلفًا .. ليست خارطة كذلك .. إنها شيء مشوه يمكن أن تتبين فيه مدرستك الابتدائية أو نمرًا آسيويًا يتربص أو ملامح زوج خالتك.
بوم .. بوم!
كلما دوت صفارة الإشارات ظهرت بعض النقاط الجديدة على الشاشة وبدأ صف جديد يظهر في الصورة الغامضة ..
هذه ليست محاولة لرسم شيء .. على الأرجح هي إحداثيات فعلًا…
بوم ..بوم!
نهض إلى الحمام متوجسًا فوجد ألعن كومة من الحجارة والبورسلين المحطم يمكن وصفها .. وكان الصبي يحاول كنس الأرض بمكنسة بالية، بينما بدأت الأرضية الخرسانية تظهر عارية تمامًا بما فيها من تركيبات مواسير ..
قال الحرفي وهو يجفف عرقه بمنديل محلاوي متسخ عملاق:
-«أقترح أن تجد عمالًا يتخلصون من هذا الركام بسرعة يا بك .. إنه ثقيل جدًا على سقف الشقة تحتنا»
سأله في نفاد صبر:
ـ«ألم تجد شيئًا؟ ..»
ـ«مثل ماذا؟»
ـ«لا يوجد شيء تحت البورسلين؟»
تبادل الحرفي نظرة مع الصبي وحك رأسه ثم قال:
ـ«لو كنت تعتقد أن هناك كنزًا فلا شيء كهذا .. »
بالطبع لم يجسر على سؤاله عن بقايا جثة أو عظام .. لا أحد يسأل عن أمور كهذه. تذكر غرفة الدفن الخاصة بريا وسكينة حيث كانت هناك مقبرة مروعة تحت البلاط، وكانوا يشعلون البخور أربعًا وعشرين ساعة لحجب الرائحة .. العمال الذين قاموا بتكسير البلاط أصيبوا بانهيار عصبي..
من الواضح أنه لا يوجد شيء من هذا القبيل هنا …
أضاف الحرفي وهو يجمع أدواته:
ـ«يجب أن تحضر سباكًا يا بك.. صنابير الماء هنا تفتح نفسها وتغلق من دون تفسير .. ثم إن الماء ينزل أحمر كالدم في أوقات كثيرة.. لا بد من (فيلتر) للتنقية»
وسرعان ما كان قد انصرف مع غلامه، وقد تحولت الشقة المنظمة إلى كابوس ..
لا توجد جثث تحت الحمام .. نظرية مصطفى خاطئة .. لو كانت هذه شقة مسكونة فلأسباب أخرى ليس مقتل امرأة من بينها ..
مضى عماد يجوب الشقة كنمر يدور في قفصه متوترًا …
يفكر في عمق .. ولتفكيره مزية هي أنه يرتاد أزقة مظلمة لم يصل لها تفكير مصطفى المستنير الراقي..
فجأة هبط عليه الحل دونما سابق إنذار .. ودون تمهيد ..
كان في الماضي يقرأ أن الحياة مستحيلة على الكواكب الأخرى – باستثناءات محدودة جدًا – لأنه لا يوجد قدر كاف من الأكسجين والماء إلخ.. فكان وهو طفل يغتاظ جدًا. لماذا لا يكون الله قد خلق كائنات تتنفس النوشادر أو ثاني أكسيد الكبريت وتشرب حمض النتريك؟ بل لماذا لا يكون الله قد خلق كائنات بلا رئات أصلًا؟
قرأ عن اللقاءات الفضائية من النوع الأول والنوع الثاني والنوع الثالث .. كما سمع أحد علماء الفلك يتحدث في قناة تلفزيونية حول احتمالية أن يكون أول لقاء من النوع الثالث نعرفه مع بكتريا أو فيروسات فضائية. صورة الطبق الطائر الهابط الذي يخرج منه رجال بمسدسات ليزر وهوائيات .. هذه الصورة لن تتحقق أبدًا على الأرجح. الخيال الطفولي الذي صدق وجود مخلوق روزويل لا يتمتع بأرضية من أي نوع ..
لكن ماذا عن سكان فضاء فقدوا ماديتهم تمامًا؟ تحولوا إلى شكل فيزيائي لا نعرفه .. وهذا الشكل هو الذي مكنهم من عبور الفضاء الساحق بهذه البساطة، وعبر مسافات وسرعة لا يتصورها عقل بشري، ولا يتحملها جسد من لحم ودم؟ لماذا لا يكونون أقرب إلى شعاعات أو تيارات مغناطيسية أو صوت؟ لماذا لا يكون الغريب القادم من الفضاء ظاهرة فيزيائية محيرة لا أكثر؟
لم يخطر هذا الحل بذهن مصطفى قط ..
ربما لأنه كان أكثر دقة وأكثر علمية، قبل أن ينقلب تفكيره بالكامل أمام تلك الظواهر الباراسيكولوجية. لم يكن خياله جامحًا ..
الحقيقة أن الكائنات الفضائية لم تكف لحظة واحدة عن المجيء إلى عالمنا ..ومنذ بدء مشروع (سيتي)..
ما يلتقطه اللاسلكي ليس إشارات ترسلها تلك الكائنات ..
الحقيقة إنه الكائنات نفسها!
يُتبع