قد تشكو من أشياء عديدة في مصر؛ منها الغلاء أو القلق أو التخبط أو الكبت أو الجوع أو الفساد.. إلخ.. لكنك بالتأكيد لن تشكو أبدًا من الملل، فمصر بلد متجدد لا يكف عن مفاجأتك في كل لحظة.
قرأت في الصحف أخبارًا مطمئنة عن أن طفل المعادي كريم لم يمت نتيجة جريمة قتل، ولكن نتيجة فوبيا الكلاب. هذا بلد الأمن والأمان كما ترى.
في مصر يمكن لابنك المراهق – لا سمح الله – أن ينزل بعد الإفطار في الثامنة مساء ليقابل بعض أصدقائه، وفي منطقة شارع اللاسلكي بالمعادي، ثم يتأخر عن العودة للبيت، وتقضي أنت والأسرة ليلة سوداء في محاولة البحث عنه، وتجرب أرقام كل أصدقائه لعله عند أحدهم.
ثم في اليوم التالي تتقدم للشرطة ببلاغ عن اختفائه، تقول شركة المحمول إن آخر مكالمة أجراها من هاتفه كانت في التاسعة والنصف مساء. يتضح أن السبب هو حشد من الكلاب المسعورة طارده في الشارع الخالي فجرى… جرى لأين؟.. إلى حيث يسقط في حفرة ويموت. هذا هو ما كشفت عنه كاميرات المراقبة لأحد البنوك في مكان الحادث. تجد الأجهزة الأمنية جثته في بدروم عقار تحت الإنشاء خُصص ليكون (مولاً) تجاريًا وتوقف العمل فيه منذ أعوام.
من الغريب أن هذا حدث في السادس من رمضان، وهو تاريخ متكرر في مقال اليوم.
قال حارس العقار إن الكلاب الضالة صارت وباء مخيفًا يهدد المنطقة، وكان كريم – اسم الطفل – مصابًا بفوبيا خاصة من الكلاب.
هكذا تجد أن الوضع مطمئن.. هناك كلاب ضالة وحفر يسقط فيها الغافلون ويموتون، وبرغم هذا لا توجد شبهة جنائية.. حتى لو داس الطفل على لغم أرضي أو التهمته سحالي الإجوانا، فالأمن مستتب.
لا أعرف سبب اضطهاد أطفال المعادي، لكني تذكرت قصة الطفل أحمد محمد حسين ذي الأحد عشر عامًا، الذي تعرض هو ووالده لإطلاق الرصاص من قبل ملثمين بالطريق الدائري في البساتين. السبب هو الرغبة في سرقة السيارة في حين لم يتوقف الأب لدى التهديد، والنتيجة هي مصرع الطفل. الحقيقة أن الشرطة أدت عملها جيدًا في هذه العملية ولاحقت الجناة، ودارت معارك بالسلاح أدت لقتل أحد هؤلاء الأوغاد. أحب اللحظات التي تكون فيها الشرطة شرطة وليست جهازًا لحماية النظام.
هل تشعر بالملل؟
إذن تعال لتمضي أمسية هادئة مع أسرتك.. تعرف أننا في الأزاريطة طبعًا. سوف تفاجأ بأن البرج الذي يبلغ ارتفاعه 13 طابقًا والذي تسكن فيه يميل.. يميل.. بزاوية حادة كأنه برج بيزا المائل، وفي النهاية يلامس البناية التي على الجهة الأخرى ليلثمها في نهم جائع. تخيل أن تنتقل في لحظة من ساكن في شقته إلى متشرد يبحث عن مكان في مساكن الإيواء، وهناك في العمارة المنهارة تترك مالك وثيابك وذكرياتك وجهاز الكمبيوتر الخاص بك وصورك وأحلامك.
قال محافظ اسكندرية – التي تخصصت في انهيار العقارات – إن هناك 17 ألف عقار مخالف في المحافظة. هذا يعني 17 ألف قضية رشوة و17 ألف قضية فساد محليات. هذا وباء يجتاح مصر.. البناء على أراض زراعية وزيادة أدوار مخالفة، وقد تفشت الظاهرة إلى درجة أن تصحيحها شبه مستحيل. قديمًا قال زكريا عزمي إن الفساد في المحليات وصل للركب.. واضح أنه اليوم قد وصل الجباه.. نحتاج إلى اسطوانة أكسجين تسمح لنا بالتنفس تحت بحر الفساد الذي أغرقنا. المشكلة كذلك أن هناك أطرافًا في غاية القوة تمارس الفساد وهي قادرة على أن تتمتع كذلك بحماية الحكومة.
بالطبع عندما تبحث عن مالك العقار تكتشف شخصية (الكَحُول) الذي رأينا سهرة كاملة عنه في قناة الجزيرة منذ عامين، والذي يتحمل مواجهة الجهات القانونية مقابل مبلغ من المال، بينما يفر المالك الحقيقي بماله الحرام.
من جديد ذكرني هذا بما حدث في 6 سبتمبر عام 2008.. وهو بالصدفة اليوم السادس من رمضان. انهيار الدويقة المروع الذي قضى على حياة الكثيرين، لكن الكارثة الحقيقية التي تحطم الأعصاب هي هؤلاء الذين ظلوا أحياء تحت الأنقاض بينما الحفارات عاجزة عن الوصول لهم، وكانوا يتصلون من هواتفهم المحمولة إلى أن نفد الشحن، وفي النهاية تم اعتبارهم شهداء. كانت هذه حادثة أخرى تحطم الأعصاب، لكننا نحمد الله على عدم وجود ضحايا في عمارة الأزاريطة.
ليس العيب هنا عيب الحكومة بالطبع. كان الراحل جلال عامر يقول: المشكلة ليست في الترزي فقط.. هناك عيب في القماش نفسه!. هناك بالفعل مشكلة مزمنة في الشعب المصري؛ الذي اعتاد الإهمال والغوغائية ولديه نقص مزمن في الضمير، لكن يبرز السؤال المنطقي: أين رقابة الدولة؟. مهمة الدولة ألا يتحول المجتمع إلى غابة وهي قادرة على ذلك.
كما قلت لك: يصعب أن تشعر بالملل في مصر. في كل يوم حادث جديد مثير، متجدد وفريد من نوعه، بينما يمكننا فهم لماذا ينتحر الناس في السويد من فرط الملل مع كل هذا التقدم وكل هذه الحضارة. إن مطاردة من الكلاب المسعورة في الظلام لقمينة بشفاء أي سويدي يرغب في الانتحار.