من كتاب "الآن أفهم" - رسوم فواز
عزيزي عصام:
كيف حالك وكيف الحياة في (ولنجتون) عاصمة نيوزيلندا؟ أعتقد أنك نسيت كل شيء عن مصر منذ فترة.. لا ألومك كثيرًا فقد عانيت كثيرًا في الأعوام الأخيرة حتى إنك صرت تشتهي الفرار اشتهاءً.. لكن الوطن لفظة معقدة كثيفة، تشتمل على الأرض ورائحة الجو والبشر والسماء و.. و.. و.. لكل وطن نجوم خاصة به.. لكل وطن رائحة ليل خاصة به.. لا تقل إنك تعبت من كل شيء في مصر.. لا تقل إنك تعبت مني مثلًا.
يعزينا عن فراقك أننا نقيم في شقتك بالعجوزة.. على الأقل هي تحمل رائحتك ولمساتك في كل شيء.. إنها الشقة التي عشت فيها أعوامًا طويلة وحدك، وهي الشقة التي أثارت خيال الكثيرين، حتى راحوا يتهمونك بأشياء كثيرة ناسين أنك مجرد أستاذ جامعي غريب الأطوار.. لست سفاحًا ولا ماجنًا ولا غارقًا في الفساد.. مجرد علامة استفهام آدمية أخرى، والبشر يمقتون علامات الاستفهام.. تذكر عندما رأينا تلك الحشرة الغريبة في شرفة دارك.. لم نتردد ونزع كل منا حذاءه واندفعنا نسحقها.. نحيلها غبارًا تناثر في الريح.
هل كانت تلك الحشرة ضارة؟ هل كانت سامة؟ بالطبع لم نعرف وعلى الأرجح كانت حشرة بريئة، لكنها غامضة.. كانت علامة استفهام لذا كرهناها.. ولذا سحقناها.
هكذا أنت.. شخص غريب الأطوار لابد أن يعتبره الناس عدوًا مخيفًا.
في النهاية سئمت أنت كل شيء وقررت الفرار.. حصلت على تأشيرة للهجرة إلى ذلك البلد البعيد النائي (نيوزيلندا).. لا أحد يعرف عنه إلا أن فيلم (سيد الخواتم) وحلقات (زينا) صوروا هناك.. من الواضح أنك لن تعود أبدًا.
على كل حال أنا وزوجتي أحببنا شقتك فعلًا.. إنها جميلة بحق وتنم عن ذوق راق. مكتبتك ما زالت هنا وكذا معظم قطع الأثاث.. أنت لم تتزوج لهذا توقعنا أن نجد شقتك مقلب قمامة أو ساحة حرب، لكنك منظم تهوى النظافة بشكل مرضيّ.
لم نحدث أي تغييرات كما تعلم.. لكن ذلك الجدار.. ذلك الجدار الذي بنيته أنت والذي يقسم غرفة الصالون إلى نصفين.. هذا الجدار بصراحة يضيق علينا الغرفة كثيرًا.. كان طول الغرفة أربعة أمتار، فجعلها الجدار مترًا ونصف المتر.. كما أنك جعلت الجزء المعزول من الغرفة بلا أبواب ولا طريقة للدخول له. باختصار أنت جعلت الجدار مزدوجًا.
هذا بيتك وأنت حر، لكن من حقي بعد أن صرت أعيش هنا وبعد ما صارت الشقة لي بعقد تمليك أن أفهم لماذا تصر على هذا الجدار. عندما سألتك عنه قلت لي إنك جمعت وراءه كل ما تملك من مهملات لا تريد أن تراها ولا تجرؤ على التخلص منها. مثلاً مهدك وأنت طفل رضيع.. هذا شيء لا تريده ولن تستعمله أبدًا لكنك كذلك لا تطيق أن تلقي به في مقلب قمامة، أو تبيعه لبائع روبابكيا وغد يستعمله كمبصقة. مثلاً مجموعة صورك طيلة مشوار حياتك .. نحو خمسة صناديق مليئة بالصور.. هذه لا تريدها لكنك كذلك لا تطيق أن تحرقها. هكذا قررت أن تضع كل هذه الأشياء في هذا المخزن، وبنيت ذلك الجدار.. كانت شروطك واضحة هي أنك ستعطيني الشقة بسعر لا يصدق.. شقة فاخرة كهذه في حي راق كهذا بهذا السعر؟ فقط هناك هذا التعهد الشرفي بعدم إجراء أي تغييرات.
طبعًا هذا يتضمن عدم هدم الجدار.. لكن لم هذا الإصرار الغريب؟
المخلص محمود
.......
يُتبع