قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Tuesday, August 18, 2009

الراية البيضاء في الإسكندرية

الدستور - 18 أغسطس 2009

Wikipedia

فعلًا يشعر المرء بملل واكتئاب عظيمين من ذلك الشعور بأنه لا شيء يتحرك على الإطلاق.. المقال الألف عن تقديرية القمني والدكتوراه المزيفة. صراعات حماس وفتح مستمرة، حتي لأجرؤ على القول في حياء إنني فعلًا لم أعد أتابع القضية الفلسطينية بالحماسة السابقة، لأن صراع السلطة فاحت رائحته وغلبت رائحة دماء الشهداء الزكية، بينما متحدثو «فتح» يملأون الفضائيات بالكلام عن «ترتيب البيت الفتحوي».. لفظة «فتحوي» هذه بالذات تحمل لي ذكريات قاسية، بينما حماس تمارس في غزة ذات ما كانت تشكو منه وتقتل أعضاء تنظيم يدعو للإمارة الإسلامية. نفس الكلام عن إنفلونزا الخنازير وهل نمنع العمرة ونخفض أعداد الحجاج أم لا؟ قرأت هذا المقال خمسين مرة.. هل يوسف زيدان يحاول هدم المسيحية، أم الكنيسة تتجمل بأن تحذف من تاريخها حقبة غارقة في دماء شهداء الفكر؟

جمال مبارك على الفيس بوك يتحدث عن الفكر الجديد، وما زال حديث التوريث ساخنًا.. زيارة جديدة لمبارك إلي واشنطن وللمرة المئة هناك مظاهرات لأقباط المهجر. ما زال المليارديرات يشترون أرض مصر بملاليم ليبيعوها بسعر الذهب.. هناك دائمًا وباءٌ ما، سواء كان أمراض الصيف المعدية التي هي التيفود متنكرًا، فالطاعون.. ثم التيفود من جديد ومحافظ يهدد بالاستقالة. حتي على مستوى الحوادث هناك دائمًا رجل أعمال قتل أسرته، وعلى مستوى الرياضة هناك دائما هزيمة مخزية أمام فريق «كذا» وعلينا أن نفيق قبل مباراة «كذا»... لقد تحدى المدرب الجميع ولم يضع اللاعب «بلبول العضاض» في خط الوسط كما نصحه العارفون.

عندما بدأت أتعلم القراءة كانت هناك مناقشات دائمة عن أزمة المسرح.. هل هي أزمة نصوص أم أزمة مبدعين؟ ما دور الدولة، وهل مسرح الجيب قادر على حل المشكلة؟ أزمة الرواية.. أزمة الشعر وتأثير «ت. إ. س. إليوت» السلبي وبعده «صلاح عبد الصبور» على حركة الشعر.. هل هي أزمة قراءة؟ هل هي أزمة إبداع؟ كانت تلك أعوام انتعاش ثقافي واضح، لكن لابد من وجود أزمة يكتبون عنها.. أعوام وأعوام وأنا أتابع هذا الكلام حتى تشبعت تمامًا. ضع في جوفي كلمة واحدة أخري أو حرف جر ولسوف أفرغ معدتي وألوث كل شيء.

من ضمن المواضيع التي تتكرر بلا توقف نتائج تلك المعركة الدائمة بين وباء الانفتاح وكوابيس العولمة وتوحش الذين باعوا كل شيء من جهة، وبين قيم الأصالة والقاهرة القديمة الجميلة التي مسخوها وباعوها من جهة أخرى. مشروع هضبة الأهرام.. مستشفي إسكندرية الجامعي.. كورنيش النيل.. هناك دائما رجل أعمال ثري يفرك يديه في شغف ويفتح فمه ليلتهم قطعة أخرى من عالمنا.. في هذه المعارك يربح القبح بلا توقف.. يكسب أرضا.. والنتيجة تتلخص في عبارة «زمن المسخ».

قدمت أعمال فنية عديدة هذا الصراع بدءا بالصورة السطحية الساذجة «تحويل مسجد إلي سوبرماركت» في «برج المدابغ» إلي الصورة الناضجة التي أبدعها أسامة أنور عكاشة في «الراية البيضاء».

يبدو أن قصة الراية البيضاء تتكرر بشكل آخر في الإسكندرية هذه الأيام. وهذه المرة يبدو أنه لابد من الكتابة عن الموضوع، لأنه يستحق الاهتمام، ولأن شباب «فيس بوك» تبنوه بجدية في مظاهرة سلمية صامتة.

الخبر الذي نشر أولًا في موقع أنباء الإسكندرية المصورة ومدونة إسكندراني مصري يقول: إن مجلس أمناء مكتبة الإسكندرية وافق علي بناء مجمع طعام «فود كورت»..أو بكلمات من يدعى إسماعيل الإسكندراني: «بدأ الأمر منذ شهور حينما تردد في أروقة العاملين بالمكتبة أن هناك انقسامًا حادًا بين الإدارة المالية والإدارة الهندسية حول تخصيص جزء حيوي ومهم من البلازا لإنشاء مجمع طعام، حيث ترى الإدارة المالية أنها فرصة استثمارية جيدة لزيادة دخل المكتبة وتعويض القصور المالي في ميزانيتها، في حين تري الإدارة الهندسية أن هذا المبنى يهدر أهم ركن يطل على البحر من البلازا، فضلًا عن حجبه الرؤية العمودية لمركز المؤتمرات وبروزه عن القبة السماوية». الصور منشورة وهي تظهر بناية قبيحة فعلًا تشبه التابوت، تقف في فخر أمام مركز المؤتمرات.. يقول إسماعيل: «مصادرنا بالمكتبة ترجح حقيقة ما قيل حول عدم الاستشارة المسبقة لممدوح حمزة - المهندس الاستشاري للمكتبة - وأنه فوجئ بالقرار كما فوجئ أي طرف خارجي، بالإضافة إلى استيائه من هذا المشروع الذي يشوه المدخل البحري للمكتبة، ويقام على حساب نزع الجرانيت من الأرضية». ثم يقول: «ولنكن عمليين، لقد تم بالفعل تدمير الأرضية الجرانيت، وحسم الجدل بالفعل بهذا القرار غير الحضاري. والآن صار حقيقة وأمرًا واقعًا».

نعم.. كلمني أنا عن سياسة الأمر الواقع. تصحو فجأة لتجد أن كل شيء تم، سواء أردت أو لم ترد. وما خبر تحديد ساعات الإنترنت ببعيد، ولهذا أعرف يقينًا أن التوريث سيتم.

نعود للمجموعة التي يقول صاحبها: "الكارثة الحقيقية هي استغلال أكثر الأجزاء تميزًا تجاه البحر لطمس التعددية الثقافية، بتأجيره للمقاهي والمطاعم الإمبريالية ومصنعي الأغذية السريعة الضارة، كمطعم «.......». هذه المجموعة أقيمت لتقول: لا.. لا.. لا لهذه الكارثة الثقافية والصحية. نحن واقعيون أيضًا، فإلغاء المشروع ليس مطلبنا. لكن كقادة المستقبل، وأيضًا كشركاء في الحاضر نطالب باحترام التعددية الثقافية والاختلاف بين الثقافات. نحن نقدر الوضع المالي للمكتبة، لكننا نؤمن برسالتها».

أوافقك يا بني وأشد على يديك، لكن من قال لك إنكم قادة المستقبل؟ قادة المستقبل معروفون ولسوف يأتون بذات الطريقة التي بني بها هذا المطعم أمام أكبر أثر ثقافي في الإسكندرية.

يبدو أن شباب هذه المجموعة بارعون فعلًا، فقد ضموا بعض العاملين في المكتبة، ويبدو أن شعار التعارف بينهم هو «أنا من الأحرار يا فتحي». يؤكدون أن «الغالبية العظمي من العاملين يرفضون المشروع ويصفونه بالتهريج، ولم ينضموا للمجموعة، إما لأن الدعوة إليها لم تصلهم أو لأن الفيس بوك يكشف هوياتهم الحقيقية التي لا تحب الشوشرة، وبتخاف علي مستقبلها».

ثمة عيب رئيس في هذا التحرك في رأيي؛ هو الخلط بين تشويه مكتبة الإسكندرية العظيمة بمشروع عولمي لأن المكتبة قررت أن تأكل بثدييها على ما يبدو، وبين مقاطعة سلسلة المطاعم الشهيرة ذاتها من منطق أنها تساند إسرائيل. هذا يفتت الدعوة في رأيي، ويعود بنا لمربع الجدل القديم «سوف تتسببون في طرد العمالة المصرية العاملة في تلك المطاعم .. إلخ». دعك من تشكك البعض «لو كان هذا المبنى مخصصا لبيع الكبسة السعودي لما تحمس أحد ضده، لكن الناس تعتقد أن صاحب هذه المطاعم يهودي لذا ركبت الموجة».

الخلاصة أن هؤلاء الشباب يحبون مكتبة الإسكندرية، ولا يطالبون بهدم المشروع الذي جثم علي قلوبهم فعلًا، لكن يطالبون باللطف في القضاء، بأن يتحول هذا المجمع من كافتيريا يتوارى فيها العشاق، إلي معرض لأكلات الشعوب باعتبارها جزءا من ثقافاتهم.. وهذا ليس مطلبا عسيرا لو استمع له أحد القادرين علي الحلم والعمل.