قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Monday, September 5, 2011

طبيب من السويس - 1



صديق عزيز من السويس، هو طبيب شاب متحمس مفعم بالأحلام والطموح والحماسة. وكان يكتب لى قبل الثورة وأيام الثورة وما زال.. وخطاباته تعطى صورة مليئة بالحيوية للسويس.. لم نلتق قط، لكنه قرأ لى كثيرا وقرأت له كثيرا، مما جعلنا نعرف بعضنا جيدا جدا، لن أذكر اسمه بناء على طلبه فى أحد خطاباته، لكننى أنقل لك ما قاله، وهو خطاب يدق أكثر من ناقوس خطر، وسوف أطلب الإذن منك بأن لا أعلق إلا بعد انتهاء كلامه، على أن خطابه هو فى الواقع نموذج ممتاز لما يحدث فى كل مستشفيات مصر منذ تراخت قبضة الأمن أو تلاشت

ـ «لقد أرعبنى مقالك فى «التحرير» 15 أغسطس، كما أرعب كثيرين غيرى عندما يجدون كل المقالات قبل الثورة صالحة لما بعد الثورة، ويتضاعف الرعب إذا علمنا، والأمر لا يحتاج إلى خبير سياسى، أن الوضع الحالى سيطول لفترة لا يعلم مداها سوى الله، ثم يتضاعف الرعب أكثر وأكثر بمقال الأستاذ إبراهيم عيسى (حرامية الجزم فى الجامع) الذى شرح فيه الوضع الحالى ببراعة يحسد عليها، وإن عجّلت بتشاؤمنا.. لن أزيد على ما قاله أو على ما قلته، لكننى سأحاول باختصار شديد أن أحكى حكاية صغيرة حدثت فى المستشفى العام الذى أعمل به، محاولا أن أكون مختصرا بقدر المستطاع، وربما توضح هذه الحكاية أشياء كثيرة عن مجمل الوضع العام فى مصر، الذى أفرز للأسف أسوأ ما فى المصريين من طباع مع كامل يقيننا أن النظام السابق يتحمل مسؤولية كبيرة عما وصل به الحال من طباع المصريين وأخلاقهم.. فى مستشفانا العام الكبير الذى يقع بإحدى مدن القناة (الثورية)، والذى يتعرض فيه زملاؤنا الأطباء وأيضا الممرضون والممرضات إلى اعتداءات لفظية وجسدية بصورة شبه يومية، وبنسبة تتجاوز النسب الطبيعية للاعتداءات على الأطباء فى بقية مستشفيات مصر!! فى مستشفانا أحيانا، بلا مبالغة، يبدأ أهالى المريض بضرب الطبيب المقيم، قبل أن يبدأ الكشف الفعلى!!ـ

نعود إلى حكايتنا الصغيرة فى مستشفانا العام، الذى يعيش على بركان ملتهب من التوتر والصراعات والمشكلات، منها ما هو قديم ومنها للأسف ما هو نتيجة طباع المصريين والغوغائية التى طفت على السطح بعد الثورة، وهو ما دعا الدكتور مدير المستشفى إلى الاجتماع مع بعض أفراد هيئة التمريض الرافضين العمل قبل صرف الحوافز، ليحتد النقاش وتعلو الأصوات مختلطة بأصوات وصياح من خارج حجرة مكتب المدير من أهالى مرضى محجوزين بالمستشفى، يشكون كالعادة من الإهمال، وأحيانا يكون معهم بعض الحق.. يخرج المدير المحتقن الشاعر بالإهانة ليجهز نفسه لمزيد من الإهانات المعتادة من أهالى المرضى، الذين لا يتسم معظمهم للأسف بالرقى والسماحة والتهذيب.. تتعالى الأصوات ليجد المدير نفسه، وهذا خطؤه الأكبر، يلقى بمسؤولية التقصير على الممرضين والممرضات الجالسين بمكتبه.. لا أعلم لما فعل هذا، لعله الشعور بالمهانة الذى نشعر به جميعا معشر أطباء المستشفى.. ربما رغبة فى الانتقام.. ربما رغبة فى الفرار من كل هذا.. لكنه حدث واندفع الأهالى المتحمسون الغاضبون إلى المكتب لتبدأ الوصلة الثانية من الألفاظ المسيئة فى شهر رمضان، يتبعها اعتداءات جسدية وعراك بالأيدى، ليشتعل الوضع وتصبح الصورة كالآتى: الأهالى يحاولون الاعتداء على التمريض، وطاقم التمريض يحاول اللحاق بالمدير، وهم يقسمون بأغلظ الأيمان أنهم لن يتركوه إلا ممزقا! ثم يقوم الإخوة الممرضون باستدعاء زملائهم من المسعفين، وأيضا أقاربهم، ليزداد الوضع اشتعالا، وتعلو الأصوات ويتوقف العمل فى المستشفى الوحيد بالمحافظة، وهو بالمناسبة نفس المستشفى الذى شهد أمجادا وقصصا بطولية، إبان حرب أكتوبر، ولم يكن هناك ساعتها حوافز ولا بدلات ولا حتى رواتب، بل أحيانا لم يكن يوجد الماء ولا الطعام.. نعود إلى الوضع المشتعل الذى استمر نحو نصف ساعة، تحول فيه المستشفى إلى مسرح كبير، وأخيرا يستفز الوضع قوة الجيش المقيمة بالمستشفى، ليقوموا بالتدخل وحماية المدير أولا من بطش التمريض والمسعفين ومحاولة فض العراك بطريقة (بس يا ولد.. بس يا بنت، عيب كده) لتستمر الألفاظ والإهانات من أهالى المرضى للتمريض والأطباء والمدير، وكل من يعمل فى المستشفى.. للأسف استمر الوضع طويلا، وانتهى فى قسم الشرطة التابع له المستشفى، والذى تقرر فيه حجز المدير لحين عرضه على النيابة، ليبدأ بعدها الأطباء فى اليوم التالى إضرابا مفتوحا لا يشمل الطوارئ، تضامنا مع المدير المهان، والمعتدى عليه.. وبالطبع التمريض بدأ إضرابا شاملا، ويقوم الجيش باستدعاء مجندين ممرضين لتشغيل أقسام الطوارئ والحوادث، بلا أى خبرة سابقة، مما يؤدى لمزيد من الاحتقان بين الجيش والأطباء، أبرزها أن يقوم صول برفع (السونكى) على وكيل المستشفى مع التهديدات المستمرة.. لقد تحول مستشفانا للأسف إلى ثكنة عسكرية، وتقلص مستوى الخدمة فيه لأقصى حد، وجميع الأطباء فيه يشعرون أنهم يعملون بين نارين: نار الأهالى المستعدين لأقصى درجات التصعيد مع الأطباء، ونار تهديدات الجيش المستمرة، مما جعل كثيرين من الزملاء يفكرون فى البقاء فى منازلهم، وعدم الذهاب إلى النوبتجيات والإضراب، حتى فى أقسام الطوارئ

الوضع العام فى مستشفانا يسوء جدا يا د.أحمد، والمناخ الصحى المطلوب للعمل فى المستشفى للفريق الطبى ذهب مع الريح، وأصبح حلما.. أصبح الآن الجو العام مزيجا من الشعور بعدم الأمان والذل والإهانة.. لم يعد أحدنا يرتدى البالطو الأبيض إلا فيما ندر، حتى يتسنى لنا الهروب فى أى وقت قبل أن يفتك بنا أى شخص متحمس، ووسط كل هذا تجاهل تام  ومريب من الوزارة

نريدك فقط أن تجيب عن بضعة أسئلة، ويا حبذا لو كانت فى مقال يقرؤه آلاف الأطباء الحالمين ببصيص من الأمل أو على الأقل يريدون أن يعرفوا ويفهموا.. لماذا يتجاهلنا الجميع إلى هذه الدرجة؟ ولماذا يسهل على الجميع إهانتنا إلى هذه الدرجة؟ لماذا انسحبت الشرطة فزادت دخولها، وعمل الأطباء تحت أسوأ الظروف، وأهينوا وضربوا، وتم لعنهم ولعن آبائهم وأمهاتهم؟ وألف لماذا أخرى.. لم أجد سواك فلعلى أشعر ببعض الراحة

والله يا د.أحمد إننى شخصيا لا أريد حوافز ولا بدلات ولا حتى قوة تأمين لى فى أثناء عملى.. أنا لا أبغى سوى أن أشعر بالتفاؤل، فهل هذا شىء عزيز؟!»ـ

فى المقال القادم نقرأ معا انطباعاته أيام الثورة، وما بعدها، ثم نعلق إن رزقنا الله بما يقال