قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Monday, September 19, 2011

ملحمة الشقة



عندما قمنا بتجديد الشقة، قررت أنا وزوجتى أن نبدأ بداية جديدة تماما، وأن نتخلص من كل شىء لا لزوم له أو قبيح أو عتيق الطراز. بالفعل كانت الشقة رائعة الجمال تبدو كأنها قد جاءت للوجود اليوم فقط. بعد يومين لاحظنا أننا بحاجة لساعة كبيرة فى الصالة، ولما لم يكن فى الوقت متسع فقد عدنا لتعليق الساعة العتيقة. اخترنا مكانا مختلفا بدا لنا غريبا، وبعد قليل وجدنا أن أفضل الأماكن هو المكان القديم فعلا. بعد يوم آخر قلت لها إننى مرتبط عاطفيا بتلك اللوحة الكبيرة التى كانت معلقة فى غرفة المكتب والتى كانت توشك على التخلص منها فى القمامة. هكذا عدنا لتعليقها وشعرت براحة لذلك. لاحظنا أن الأولاد لا يفتحون النوافذ بحذر، لذا ظهرت ذات الخدوش القديمة التى اختفت بعد الطلاء. بعد جولة أو اثنتين على معارض الموبيليا وجدنا أن أفضل أنتريه محتمل هو الأنتريه القديم الذى كنت أنوى بيعه لأول طارق

بعد أسبوعين شعرنا بشعور غريب. ألفة مزعجة.. ألفة تثير الجنون. لقد بدأت الشقة تعود بنجاح تام إلى ما كانت عليه، والأمر يحتاج إلى قوة ملاحظة بالغة كى تدرك أنها خضعت لتجديد شاق ومكلف، وبدأت زوجتى تتحدث عن فكرة الانتقال إلى شقة جديدة. هناك فقط يمكن أن تكون البداية ثورية ومختلفة فى كل شىء

لا أعرف لماذا خطر ببالى هذا المثال بالذات هذه الأيام

لست من هواة القلق على الثورة، وما زلت أجد صعوبة فى تصديق أن ما تم منذ 25 يناير تم فعلا، وأنا من المطالبين بعدم الصدام مع المجلس العسكرى بأى ثمن، وأرى فى سيناريو الصدام حمامات دم تتوارى وراء الأفق، ولكن مجريات الأمور تصر على أن تجعلنى قلقا، ولا تفارق ذهنى مقولة قارئ ذكى علق فى موقع إنترنت قائلا «موقفنا من المجلس العسكرى يشبه امرأة تشك فى خيانة زوجها، لكنها تفضل الصمت حتى لا تخرب بيتها بيدها!». فى مثل هذه الأيام تنتهى فعلا الفترة التى طلبها مبارك لترتيب الأمور فى خطابه الثانى العاطفى الشهير. فماذا تم فعلا؟ وكيف اختلفت الأمور عما إذا كان حرا طليقا يصدر أوامره هنا وهناك؟ للأسف -أقول لنفسى- ليس الفارق كبيرا جدا

فى فبراير ومارس كانت الشقة جديدة لامعة تفوح برائحة الطلاء، وكانت الآمال عريضة، لكننى اليوم أنظر فأشعر أن أشياء كثيرة قد عادت

خبر سيئ فعلا هو ما حدث لمكتب «الجزيرة -مباشر» بمصر. بالتأكيد هو تراجع واضح فى مسار الثورة، ونحن الذين حسبنا أنه لن يتم خنق أى وسيلة إعلامية بعد 11 فبراير، والحقيقة أن ما قدمته القناة بصدد السفارة الإسرائيلية يندرج فقط تحت بند النقل الأمين للخبر، ولا يمكن أن يندرج تحت بند التحريض أبدا

ما حدث -أو كان سيحدث- لأسماء محفوظ تراجع واضح، وفى رأيى أنها لم تهدد بشىء. ما فعلته بالضبط هو أن قالت إنها تخشى أن تفلت الأمور. الفارق واضح بين من يخشى أن تفلت الأمور وبين من يعد بأن تفلت الأمور، وعلى كل حال هناك عشرات الطرق القانونية لعقابها غير المحاكمة العسكرية

خبر آخر يؤكد أن أى عضو من حركة 6 أبريل بالإسكندرية ممنوع من دخول مقر المبنى الخاص بتليفزيون القناة الخامسة، ومنهم أحمد فهمى عضو الحركة، الذى ذهب إلى التليفزيون بناء على اتصال تليفونى من معدة البرنامج، ففوجئ بالقرار الصادر بمنع أى عضو فى الحركة من الظهور

هذا الأنتريه يبدو مألوفا، إنه يشبه الأنتريه القديم تماما إن لم يكن هو بعينه

وماذا عن تكرار سيناريو محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية، وهو ما كتب العشرات عنه؟

لماذا لا تذاع المحاكمات؟ ولماذا تحاط بكل هذا الضباب، بعد جلسة واحدة أو جلستين من الشفافية؟

أين الأمن؟ ما زالت الحالة الأمنية متدنية والحوادث فى كل مكان، وهناك أباطرة جريمة يظهرون فى كل يوم. كان هناك خلل أمنى واضح قبل الثورة، واليوم يأتى خلل أمنى فاضح، وفى هذه المرة نكتشف أن الساعة القديمة المعلقة فى الصالة كانت أفضل حالا، فقد كانت تدق على الأقل

شقيق زكريا عزمى يمارس نوعا من البلطجة بالغة السوقية ضد خبراء لجنة الكسب غير المشروع، ويهينهم ويوشك على اغتصاب الخبيرة القادمة معهم. هل هذا شىء طبيعى بعد قيام ثورة؟ الرجل يشعر بأنه فى وضع قوى وأن هؤلاء حثالة. نفس موقف الثرى الأرستقراطى أحمد مظهر فى فيلم «رد قلبى» مع شكرى سرحان الذى يمثل الضباط الأحرار، طبعا مع فارق هائل فى الرقى والتحضر. خبر يثير الغيظ ويثير القلق معا

الرد الهزيل جدا ذو الطابع «المباركى» على مقتل الشهداء المصريين، وبناء الجدار العازل، هو الرد الذى جعل الجماهير تندفع لاقتحام السفارة الإسرائيلية فى حركة غير دبلوماسية بالمرة، هذا الاقتحام الذى يؤمن رجل الشارع أنه تم التسهيل له ومباركته أمنيا على كل حال، ما لم تكن مؤامرة بالكامل هدفها إظهار أن الفوضى أكبر مما هى عليه

إن رجل الشارع يدرك قبل سواه أن الشقة بدأت تبدو كما كانت قبل البياض، والنتيجة هى أن كل واحد أشعل فى نفسه ثورته الخاصة. كل واحد ثائر وعنيف، وقد صار قطع الطرق روتينا يوميا كما صار الاعتصام من قبل

إن تأخير الانتخابات خطر حقيقى. الزمن ليس فى صالح الثورة بتاتا مع كل هذه المؤامرات والخطط المضادة. يجب أن تدور العجلة السياسية بأسرع ما يمكن، وتصير لنا دولة حقيقية من جديد. فى رأيى أن كل يوم يزيد الشروخ وسوء التفاهم بين الشارع والمجلس العسكرى، ويزيد من الضغط على هذا المجلس، كما أنه يزيد من فرص الانفلات الأمنى الذى يجعل فكرة الدولة المدنية أصعب وأصعب

لا تنكر كثرة الشروخ التى بدأت تملأ الجدران، ولا تنكر النمو السرطانى للجبهات والائتلافات ولعبة التخوين التى لا تتوقف، وذلك منذ الاستفتاء حتى اليوم، حتى صار الجميع من الفلول تقريبا بلا أى فرقة ناجية. صراع الدستور أولا أو الانتخابات أولا متوقف لأنه لا يبدو واحد منهما فى الأفق، الشعار هو «الشجار أولا». والأسوأ أن الكل يصب البنزين على النار بلا توقف، حتى أشعر أننى الجبان الوحيد فى مصر الذى يخشى الحرب الأهلية ويخشى الصدام مع الجيش. الشقة تعود إلى حالتها السابقة يا سادة. يجب أن نتوقف عن الخلافات الجانبية ونضع الهدف أمام عيوننا: انتخابات نزيهة تأتى بسلطة قابلة للتغيير.. يجب تحقيق هذا قبل أن نضطر للبحث عن شقة جديدة