قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Saturday, March 9, 2013

في شارع المشاط - 6


هكذا فتحت لمياء الباب ونظرت إليّ في دهشة وحيرة.. ابتسمت ملطفا ورفعت حاجبيّ بمعنى (أنا هو ذلك الرجل.. هل تذكرين؟)، ثم تهلل وجهها قليلا ودعتني للدخول.. لا بد أنها حسبتني من رجال الشرطة، فقلت لها بصوت خفيض:ـ
ـ هناك أشياء أريد أن أسألك عنها
قالت في ارتباك:ـ
ـ تفضل واسأل

فتحت لمياء الباب ونظرت إليّ في دهشة وحيرة ـ (رسوم: فواز) ـ

بالطبع ليس هذا هو المكان ولا الزمان.. إن ما لديّ هو حديث طويل وأتوقع منها حديثا أطول، لو كان هناك شيء فعليها أن تخبرني به.. وإن لم يكن فعليّ أن أرهقها وأزعجها بالأسئلة إلى أن أؤمن أنها لا تعرف

ـ أولا كم سنك؟
ـ سني خمسة وعشرون عاما.. وما زلت لا أفهم
ـ هل يمكن أن نتكلم في مكان منفرد بعيدا عن هنا؟
ـ لا

قالتها في بساطة وبراءة ومن دون حدة أو غضب.. كأنها تقرر حقيقة مطلقة، وأدركت أنها بالتأكيد تحسبني أريد ما يريده أي شخص آخر يراها، الغزل.. أن أخبرها كم أنا مقروح الجفن مسهود، وأضحى التنائي بديلا عن تدانينا.. إلخ

الحقيقة أنني كنت أتمنى ذلك، لكن هذا ليس وقته كما ترى، كنت بحاجة إليها لأنني أرى أمامي جدارا محكما شديد القوة والصلابة.. هناك جزء هش نوعا أو هو أقرب إلى الصلادة، وأنا أريد أن أطرق على هذا الجزء فقد أجد ثغرة.. لمياء هي الجزء الهش في الجدار أو هذا ما حسبته
لم أتكلم.. لم أبحث عن كلمات
فقط استدرت لأبتعد، وفي نفس اللحظة تقريبا انغلق الباب بصرامة من خلفي

-14-

قلت لك ألا تسألني ثانية عن أحلام
أنا لا أمزح.. من السهل أن تثير غضبي فأكف عن سرد هذه القصة؛ لقد أنذرتك من قبل

أنا لا أذكر إن كانت أحلام أنثى أم لا.. أعني أنها كانت حاملا وكانت تلفظ أنفاسها الأخيرة؛ لا بد أنها كانت أنثى إذن، لكن لم أرَ فيها أي أنثى؛ رأيت كيانا سقيما شاحبا وبين ساقيها كانت بركة من الدم تنزف، هناك إلى جانب الطريق كانت ملقاة، ووقف عدد من عابري السبيل يخشون أن يساعدوها أو يمدوا لها يد العون؛ بدت لهم مخيفة، بدت هي الموت نفسه ينتظر من يمد يده ليخطفه معه

كان هذا هو الشارع الرئيسي.. لم أعرف وقتها أن هذه الفجوة بين بنايتين تقود إلى شارع المشاط
لم أكن أصلا أعرف أن هناك شارعا بهذا الاسم
وكانت سيارتي العتيقة من طراز 1100.. انحنيت وحملت الجسد المنهك النازف لأضعه في المقعد الخلفي، ونظرت إلى الناس في قرف.. ماذا تخشون يا أيها المشئومون؟ هل تتوقعون أن هذه الفتاة لص متنكر سوف يذبحكم؟ تبا لكم وللامبالاتكم

حتى قبل أن أبلغ المستشفى أدركت من منظر ساقيها أنها تلقت ركلات كثيرة جدا
قصة واضحة.. الحامل لا تتلقى ركلات إلا لو كانت حاملا بشكل غير شرعي،  وبالتأكيد معظم هذه الركلات لنساء مسنات؛ الرجال لا يملكون أبدا الأعصاب الكافية لركل امرأة حامل، النساء يستطعن

من أنت؟
من أنت؟
عرفت من شفتيها الجافتين أن اسمها أحلام.. هذا كل شيء
وعرفت أنها فقدت جنينها

وما لم تقله هو أنها جاءت من شارع المشاط.. عبرت تلك الفجوة بين الجدارين لتصير في الشارع العمومي.. ثم سقطت أرضا
ولكن.. ـ
قلت لك ألا تذكرني بهذه القصة.. انسَها وانسَ أنني ذكرت شيئا منها

***

كما قلت لك، لم أستطع الوصول إلى شيء مع الفتاة لمياء،  لكي أعرف أي شيء فلا بد أن أنفرد بها؛ بالطبع لن أستطيع معرفة أي شيء في وجود الغراب المسن أمها، لكنني على كل حال مسرور لأن الموت لم يحدث في بيتهم في المرة السابقة، احتمال فقدها كان 50% وهو احتمال مقلق لو كنت تفهم ما أعنيه

واصلت الحياة بعيدا عن شارع المشاط.. تصور هذا! هناك مشاجرات في السلخانة، وهناك سرقات سيارات، وهناك سطو مسلح، وهناك من يجدونهم قتلى في بيوتهم، تصور هذا! هناك عالم كامل عملاق خارج شارع المشاط، وهذا العالم قادر على جذبي داخله

كنت غارقا في هذه التفاصيل، دعك من أنني أحب عزة زميلتي فعلا، أعتقد أنني سأخطبها عما قريب، لكن لنبقِ هذا سرا، المشكلة هي أن لمياء تظهر كالشبح بيننا كلما دنوت منها
دق جرس الهاتف فرفعت السماعة
الصوت الذي عرفته جيدا من مجرد الشهيق، من مجرد التنفس، يقول لي:ـ
ـ هناك هدية لك في صندوق الق...ـ

لم أنتظر للفهم.. طبعا لم يكن الهاتف مراقبا؛ هذا الوغد يتصل بشكل غير منتظم وعلى فترات متباعدة جدا، وهكذا هرعت أركض في الشارع لأبحث في صندوق القمامة عن هديتي
مزقت اللفافة بسرعة وفتشت فيها

هذه المرة وجدت طبقا صغيرا بحجم طبق فنجان القهوة، طبقا من فضة
حملت اللفافة مسرعا عائدا إلى المكتب، وطلبت عزت، ثم تذكرت
الفضة.. خمسة وعشرون! يا للمصيبة! اليوبيل الفضي، خمسة وعشرون عاما
عندما جاء صوته صحت في جنون:ـ
ـ عزت.. سوف يقتلون لمياء! عمرها هو.. تصرف من فضلك

وجدت طبقا صغيرا بحجم طبق فنجان القهوة ـ (رسوم: فواز) ـ

كان قلبي يتواثب حتى صرت واهنا جدا.. لو جريت لفقدت وعيي وسقطت أرضا.. لا بد من أحد يفعل لي هذا
قال عزت مهدئا:ـ
ـ صبرا.. لا بد أن الشارع يعج بمن هم في نفس السن، لا يوجد دليل
ـ هناك دليل، أنا منحوس! بالتأكيد ستموت هي

قال كأنه يكلم طفلا:ـ
ـ صبرا.. الحقيقة هي أن لديّ ستة رجال يحومون في هذا الشارع أو حوله.. سوف أرسل رجلين يراقبانها الآن.. لن يحدث لها شيء

قلت وأنا أرتجف:ـ
ـ على الأرجح سيكون كل شيء قد انتهى، انتهى كما في كل مرة
انفجر في غيظ:ـ
ـ يمكن أن أنقذها لو كففت أنت عن تضييع وقتي والبكاء كالمطلقات في محكمة الأسرة

هكذا وضعت السماعة وأسرعت أضع سترتي وأدير محرك سيارتي قاصدا شارع المشاط اللعين.. لقد تلفت أعصابي فعلا؛ سوف أتحاشى الرد على أي مكالمات في المرة القادمة
ترى كيف ماتت؟ مشنوقة أم مذبوحة أم سقط شيء ثقيل على رأسها؟ سنعرف حالا

عندما وصلت عند المنزل رقم 50 أدركت أن هناك مصيبة فعلا
كان عزت يقف مهموما أمام البيت ذي الأرانب.. وهناك رجلا شرطة يتكلمان وقد بدت الخطورة على وجهيهما، وفي الخلفية رأيت ما توقعته: السيدة العجوز.. الأم.. حية.. تبا
من الواضح أنها قلقة ولا تفهم ما يحدث

دنوت من عزت ولامست ذراعه.. نظر إليّ في جدية ثم قال:ـ
ـ الفتاة ليست هنا.. غادرت الدار منذ ساعة مع صديقة لها.. الرجال يبحثون
ابتلعت ريقي
لن تكون جولة هادئة إذن.. لا بد أن القاتل سينهي مهمته الآن مع مجيء رجال الشرطة
هنا سمعت ضوضاء ورأيت ما أثار ذهولي

.......

يُتبع