عندما يخرج الجنون من القمقم، فلا شيء يقدر على إعادته
لأسباب ما يخرج هذا الغاز من الأنبوب، ثم يتسرب في كل مكان. لا أحد يقدر على جمع الغاز أو حبسه
هكذا كان اللحاد جالسا في تلك الغرفة الصغيرة عند مدخل المقبرة
كان جالسا أمام بابور الجاز -موقد البريموس حتى لا يتضايق اللغويون- وقد وضع فوقه إناء صغيرا به ماء ولحم وبصلة.. وكان يرمق النار متلمظًا.. الليلة سيكون العشاء دسما. صحيح أنها لقمة جاءت من نبش القبور.. أي أن ما يطبخه هو مجازيا لحم موتى، لكنه كان قد تجاوز مرحلة هذه الاعتبارات الأخلاقية
سمع طرقات على الباب الخشبي المتداعي. فنهض ليفتح
في اللحظة التالية كان الأخوان في الغرفة، وقد استطاع أن يرى الشيطان في عينيهما.. الشيطان.. هذا مشهد رآه من قبل ويعرفه
ـ خيرا؟ لماذا عدتما؟
قال هشام لاهثًا:ـ
ـ الصندوق خاو.. لا يوجد شيء
ـ هذا شأنكما.. ليست مشكلتي
هنا قال صلاح وهو يمسك بالرجل من فتحة الجلباب ويجذبه:ـ
ـ نحن نعتقد أن شيئا كان في الصندوق وقد تمت سرقته
أمسك صلاح الرجل من فتحة الجلباب وجذبه ـ (رسوم: فواز) ـ |
صاح الرجل أنه لم يفعل.. عندما تكون ضيق العينين خبيث النظرات نحيلا كفأر، فإن إنكار التهمة هو بالضبط الأسلوب المناسب لجعلك تبدو كاذبا
راح الرجل يقسم.. أنتما حصلتما على الصندوق.. أنا نلت الحلوان.. انتهى الأمر.. ماذا تريدان بعد هذا؟
ـ نريد الشيء الذي في الصندوق
ـ لم يكن هناك شيء في الصندوق
كان الغضب قد بلغ الذروة.. وكل محاولة إنكار تؤكد لهما أنه سرق شيئا.. هكذا ازداد الضغط على ذراعه.. يمكنك سماع العظم الهش وهو يوشك على التحطم
ـ تكلم
السباب ينهال على رأس الرجل، والصفعات.. شابان قويان غاضبان مع رجل هش وحيد. في النهاية سقط على الحصيرة الموضوعة على الأرضية فراحا يوجهان الركلات لرأسه.. لم يعد هناك تعقل.. ركلة... ركلة.. ركلة... سوف يمر وقت طويل قبل أن يدركا أنهما أحمقان وأن فرصة استجوابه انتهت
توقفا ونظرا إلى المشهد
ـ لقد مات يا صلاح
كان المشهد مؤكدا ولا يحتاج إلى تخطيط مخ وتخطيط قلب للرجل الراقد على الأرض. وفي لهفة راح الشابان يفتشان في الغرفة. عن ماذا؟ لا يعرفان.. عن الشيء الذي جعلهما يقتلان لأول مرة. الآن برز احتمال معقول هو أن الرجل صادق.. لقد تسرعا جدا
لم يتفقا على الخطوة التالية، لكنهما وجداها بديهية.. كل شيء في هذه الغرفة يحمل بصماتهما.. لذا أطفأ هشام البابور -موقد البريموس حتى لا يتضايق اللغويون- وفتح الصمام ثم راح ينثر السائل قوي الرائحة في كل مكان. للأسف لن يأكل أحد هذا اللحم الذي نضج.. لكن دعنا نتذكر أنه معنويا أقرب للحم الموتى. على باب الغرفة ألقى هشام بالثقاب المشتعل، وفرا بعيدا قبل أن يتعالى اللهب
سوف يحترق كل شيء
على الأرجح لن يتعب الطبيب الشرعي نفسه في البحث، ولن يجد آثار التهشيم في عظام الجمجمة.. لسنا في قصة لأجاثا كريستي هنا
فلنفر
*******
كانا يرتجفان.. وشعر هشام بأن القتلة أشخاص فوق الواقع. كيف تمارس حياتك بشكل طبيعي بعد الفتك بإنسان؟
هناك في الشقة دخل كل منهما الحمام ليغتسل، ممارسا مشاعر ماكبث بعد قتل دونكان (لو اجتمعت بحار العالم جميعا على محو هذا الدم ما استطاعت)ـ
في النهاية جلس هشام يدخن وينظر إلى الصندوق المربع الصغير. مشئوم.. نحس.. مد يده وعالج المسمار المحوي.. استطاع أن يفتحه ويخرج الوريقة الغامضة التي حيرته من قبل، فراح يتأملها:ـ
ولما توارى شعاع الأصيل
وعدنا من الغاب نبغي الرحيلا
دعت لي بسلوى وصبر جميل
إذا ما الوصال غدا مستحيلا
وتسمع في الليل همس القبور
وأنفاس من غاب عودا نحيلا
ما معنى هذه الأبيات السخيفة؟
قرأها بصوت عالٍ على مسمع صلاح، وكان الأخوان يمقتان الشعر طبعا ولا يفهمانه لهذا لم يحصلا إلا على فكرة عامة عن معنى هذه الأبيات
جلب صلاح زجاجتي خمر، وصب في كأسين كبيرين.. منذ زمن عرف الأخوان أنهما لا يتصنعان أي شيء أمام بعضهما. لهذا فعلا كل الموبقات أمام بعضهما دون خشية
بعد الكأس الرابعة قال صلاح بلسان معوج:ـ
ـ أنا قد أكون وغدا منحلا.. لكني لست قاتلا.. هذا أقوى مني
قال هشام بلسان أكثر اعوجاجا:ـ
ـ يجب أن تنسى هذه الجريمة.. تنساها وتنسى أنك نسيتها.. لم يبقَ منها سوى غرفة محترقة ورماد
ـ ربما احترقت لكنها ستظل حية في ذاكرتي.. سوف يطاردني المشهد ما حييت
ثم نهض مترنحا نحو الباب وهو يستند إلى الجدار
ـ إلى أين العزم؟
قال صلاح:ـ
ـ لا أستطيع قضاء الليل هنا.. لا أستطيع أن أراك أمامي.. سوف أبحث عن مكان آخر
ـ ليس من الحكمة أن تخرج وأنت ثمل.. من الوارد أن ينزلق لسانك
قال صلاح وهو يعالج المزلاج بيد راجفة:ـ
ـ هذا ما أنويه فعلا... سوف ينزلق لساني
ـ هل تمزح؟
ـ ربما كان في هذا خلاصي
وواصل معالجة المزلاج
الخمر لها إرادة خاصة بها.. تدهشك دوما بما تفعله وأنت لا تعرف أنها فعلته. لا يعرف هشام كيف طارت الزجاجة من يده لتضرب أخاه في مؤخرة رأسه
عندما سقط صلاح على الأرض تذكر هشام الألعاب الغليظة الخشنة التي كان يمارسها في طفولته مع أخيه.. كان يمزح.. هذه ألعاب أطفال خشنة نوعا لكنها ألعاب.. هو لم يقتله.. بالتأكيد لم يفعل.. فقط أراد منعه من التمادي
صلاح يرقد الآن خلف الباب والدم ينزف من مؤخرة رأسه والزجاج المهشم تناثر على الأرض
إنه نائم.. بالتأكيد هو نائم.. لا توقظوه
ضحك هشام كثيرا وهو يراقب أخاه النائم.. لعب أطفال ظريف
عاد للمقعد وأشعل لفافة تبغ أخرى.. الدخان يرسم اسم هشام واسم صلاح في فراغ الغرفة
صندوق لعين قذر.. لقد جعل الأخوين يتشاجران.. صب لنفسه كأسا أخرى
مد يده إلى الصندوق وراح يعبث بأنامله.. لقد عبثت بهما العمة اللعينة.. لم تترك شيئا لكنها تركت لهما دعابة قاسية فعلا
أخرج الوريقة المقيتة التي كتبت فيها الأبيات
ولما توارى شعاع الأصيل
وعدنا من الغاب نبغي الرحيلا
دعت لي بسلوى وصبر جميل
إذا ما الوصال غدا مستحيلا
وتسمع في الليل همس القبور
وأنفاس من غاب عودا نحيلا
وقابيل يلقى أخاه الحبيب
فتجري الدماء ويهوى قتيلا
حك رأسه مرتين.. أغمض عينيه وراح يحاول أن يجعل بصره أقوى.. وربما بصيرته
هذه الأبيات اللعينة.. كانا بيتين فقط.. هو متأكد من هذا.. لا شك في هذا
هذه القصيدة تستطيل! إنها تزداد بيتا كلما هلك إنسان آخر
.......
يُتبع