صار الكلام عن علاج (السى – الإيدز – الصدفية – السكري – السرطان – أنفلونزا الخنازير) المصرى الجديد مملاً من كثرة ما كُتب عن الموضوع، لذا سأكتفى ببعض الملاحظات المتفرقة ثم أغلق الموضوع لننتقل إلى ضرب آخر من العلم الزائف.
- معظم الناس أدركوا أن موضوع العلاج هذا يشوبه الكثير من الشك، لكن هناك من أصروا بعناد على أنه شيء رائع، حتى بعد ما قدم الكثيرون أدلتهم العلمية. هناك باحث فيروسات مصرى فى معهد MIT الأمريكى يشرح على يوتيوب سبب الشكوك التى تنتابه. إنه ينكر حتى وجود جهاز للتشخيص برغم أننى أعارضه فى هذا الرأى. فوجئت بالشتائم تنهال عليه ويتهمونه بأنه عميل للأمريكان والإمبريالية العالمية. مستحيل كل هذا العناد الذى يورث الكفر. البعض لا يريد أبدًا الخروج من دائرة الأهلى والزمالك والتعصب الأعمى حتى لو كان الحق كالشمس .. كل شىء عندنا يتحول إلى مباراة كرة قدم و(حرقنا دمهم) و(الرِف موالس معاهم) و.. ثم تكسير مقاعد وقذف شماريخ ومطاوى قرن غزال. فإذا جاء 30 يونيو دون أن يحدث شىء أو يشفى الجميع، فلن يشعروا بلحظة خجل .. سيقولون إن العالم كله والطوابير الخامسة حاربوا الاختراع المذهل من أجل شركات الأدوية، وسيزداد شعورهم بالبارانويا وأن العالم كله ضدنا. كلما فشلت تجربة لأنها فاشلة قالوا إن السبب أن هناك من أفشلها.. هل تذكر شركات توظيف الأموال التى ظل الناس يرثونها ويشتمون الحكومة، حتى بعد ما هرب بعض أصحاب الشركات بمال المودعين، وسجن بعضهم، وتبين أنه لا يوجد مشروع واحد من تلك المشاريع التى يعلنون عنها؟. كانت الحكومة على حق تمامًا فى قرارها وقتها، لكن الناس قالت: «أصل الحكومة يا سيدى مش عاوزة اقتصاد إسلامى ولا دولة إسلامية !».. اليوم تغيرت الجبهات لكن المبدأ واحد..
- تكلم د. عصام حجى المستشار العلمى للرئيس فقال لجريدة الوطن: «إن الاختراع غير مقنع وليس له أى أساس علمى واضح من واقع العرض التوضيحى للجهاز، الذى أذيع فى القنوات التليفزيونية، إضافة إلى أن البحث الخاص بالابتكار لم ينشر فى أى دوريات علمية مرموقة» . رجل محترم يحب مصر ويحترم جيشها فعلاً، انبرى النائب السابق محمد أبو حامد قائلاً فى حماس على تويتر: «أتعجب من التصريحات العدائية لعصام حجى المستشار العلمي المؤقت للرئيس المؤقت المقيم بأمريكا والتى انتقد فيها العرض التوضيحى لاختراع الجيش.. يجب على الرئيس عدلى منصور أن يراجع مواقف مستشاريه بعد أن أصبحت تصريحاتهم ومواقفهم تثير اشمئزاز الشعب وتعبر عن سوء نية متعمدة». هذا هو ما أتكلم عنه. كل من يجرؤ على الكلام بشكل علمي وسط هذا السيرك يُحرق ويمزق، لكن على فكرة الشعب لم يشمئز هذه المرة.. اللقمة أكبر من أن يتم ابتلاعها بسهولة. ولسوف يدفع باحثونا ثمن هذه الفضيحة غاليًا عندما يحاولون نشر أبحاثهم فى دوريات عالمية، أو حضور المؤتمرات المرموقة فى الخارج.
- يحكى هيكل عن زيارة الزعيم عبد الناصر للاتحاد السوفيتى أيام مفاوضات حائط الصواريخ. يقول إن الحكومة السوفييتية رتبت لناصر مع وزير الخارجية رحلة صيد فى بركة مغلقة. فوجئ ناصر أنه كلما ألقى بالصنارة خرجت بسمكة .. فأدرك أن هذه بركة معدة بعناية لتكون كثيفة الأسماك إكرامًا للرؤساء الضيوف، فقال لوزير الخارجية فى ملل: «هيا بنا نرجع .. هذه بركة سياسية!». نفس الشيء ينطبق على موضوع علاج الفيروس سي.. لقد جعلوها قضية سياسية وليست علمية، ولهذا صار كل من يعترض أو يبدى الشك عدوًا للجيش وطابورًا خامسًا كالعادة..
- كتب كثيرون عن الاكتشاف، وكما قلت هم يخلطون بين التشخيص والعلاج بشكل عجيب. بعضهم يملك خلفية طبية ولن يرتكب هذا الخطأ إلا عمدًا. هناك طريقة يعرفها الباحثون فى دس الصواب مع الخطأ .. مثلاً تقول فى نفس الجملة: «من المعروف أن التهاب الكبد سى مرض خطير جدًا (وتذكر عشرات المراجع العالمية الرصينة) والجرجير يشفى هذا المرض تمامًا (وهنا لا تذكر مراجع، أو تذكر مرجعًا باهتًا نشر فى مجلة صربية لا يعرفها أحد)». النتيجة هى أن من يقرأ يستنتج أن الجرجير يشفى التهاب الكبد سى بشهادة مراجع علمية محترمة جدًا!
- الجزء الخاص بالتشخيص صحيح، لكن الدعاية الصاخبة حولته إلى نوع من ألعاب الحواة .. هل ينتقل فيوس سى بمصافحة المريض أو لمس ثيابه؟.. هذه حقيقة علمية جديدة!.. وهل الجهاز حساس لهذا الحد المرعب؟.. لو كان الأمر كذلك فهذا يجعله بلا قيمة، لأن زيادة الحساسية sensitivity تأتى على حساب الخصوصية specificity وكل باحث يعرف أن هذا معناه أن الاختبار لا قيمة له. لو مر الجهاز جوار زجاجة زيت تموين لقال إنها مصابة بالفيروس. دعك من أن موضوع الإيريال يذكرك بسحر الماء Dowsing وهى تلك العصا التى يحملها السحرة ويمشون بها وينتظرون أن يهتز طرفها ليشير لمكان الماء تحت الأرض.
- كما قلت فإن وضع الجيش فى قضية علمية تحتمل الخطأ والصواب خطر فعلاً. هنا الأمر علمى يحتمل المناقشة والصواب والخطأ .. الفيروس لن يتصرف بالأمر وإلا صار عميلاً لأمريكا وقطر.. ومن يعجز الجهاز عن شفائه ليس من الإخوان. ما لا يستطيع هؤلاء فهمه أن الغيرة على الجيش والحرص على صورته أمام مواطنيه والعالم هما سبب هذه الشكوك؛ لكن ضيق الأفق يمنع المرء من رؤية الشمس. منذ عامين – أيام المجلس العسكري – ظهر رجلان يزعمان أنهما كانا سمسارين أوفدهما مبارك لشراء ماس من جنوب أفريقيا، وقد جلبا معهما ماسة من الذى اشترياه من هناك. ظهر الرجلان على قناة المحور مع اهتمام (إعلامى) من إياه. أولاً منظر الرجلين لا يوحى البتة بأنهما رجلا أعمال يستخدمهما رئيس جمهورية لشراء الماس له، ثانيًا بمجرد أن ترى الماسة تدرك أنها قطعة كريستال سرقها أحدهما من نجفة صالون أمه. كبيرة جدًا بحجم قبضتك ومصقولة.. على ما أعتقد أن الكوهينور هى أكبر ماسة معروفة وهى بحجم البيضة. كان سؤال واحد لأى جواهرجى قبل التصوير كافيًا كى يخبرهم أن الرجلين نصابان، لكن البرنامج يريد أمسية مثيرة بأى ثمن. كل هذا مفهوم، هنا تنتقل الكاميرات لباب الاستوديو لترينا على الهواء مدرعات الشرطة العسكرية تنتقل لتؤمن المكان ضد سرقة (الألماظة)، واللواء حمدى بدين شخصيًا جاء يشرف على العملية. هذا المشهد آذانى جدًا .. إقحام الجيش المصرى فى هذا السيرك لم يكن له داع أبدًا، وكما قلت كان رأى جواهرجى واحد كافيًا لإنهاء القصة كلها. وطبعا أعلن البرنامج فى اليوم الثانى أن الماسة ليست ماسة بل قطعة كريستال من نجفة صالون. اليوم هناك ماسة من نوع آخر .. وبرضه يتم إقحام الجيش فيها.
- هكذا يمكنك أن ترى أن هذه حالة استقطاب أخرى تضاف لما نعانيه. الوضع سيئ لدرجة الكوابيس، لكننا نعود فى كل مرة لنؤكد أن مشكلة مصر الأولى هى التعليم. الناس لا تفهم روح العلم جيدًا . يجب أن يكون هناك منهج واضح لطرق البحث العلمى وتصميم الدراسات يضاف لمناهج المدارس. وليكونن هذا المنهج أهم بكثير من الفلسفة والتربية القومية، وكل الكلام الفارغ الذى يحشون به عقول التلاميذ ليسكبوه على الورق وينسوه بعد ربع ساعة من مغادرة اللجنة