قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Saturday, April 25, 2015

الأخــــرى


تغمض سلوى عينيها مفكرة، وتأخذ شهيقًا عميقًا. ثمة شىء غير أصيل فى هذه الإيماءة. تغمض عينيها وتشهق لتتظاهر أنها من النساء اللائى يغمضن عيونهن ويشهقن. تفاعل هستيرى واضح.

هناك فى الضوء الخافت الذى يغمر العيادة، وجو الخَدَر العام، الجو الذى يغريك بأن تغمض عينيك وتعترف بأنك اغتصبت كليوباترا أو قتلت كنيدى لو طلبوا منك ذلك... هناك فى هذا الجو المدوّخ ترقد سلوى على الفراش تلعب دور المريض النفسى.


فى الظلام خارج دائرة الضوء يجلس الدكتور صابر محاولًا لعب دور فرويد. يدوِّن بعض النقاط ويترك لتداعى الأفكار الحر أن يخبره بشىء عن مشكلات هذه الفتاة. جميلة لا شك فى هذا (خَطَرَ له) لكنها لا تجيد العناية بشعرها فاحم السواد، كما أن ثيابها غير مهندمة، وحالتها النفسية تنعكس إرهاقًا واضحًا على ملامحها.. تلك الانتفاخات والعوينات السميكة التى أصرّت على عدم خلعها لأنها لا تشعر بالثقة عندما تكون شبه عمياء فى هذه الإضاءة الخافتة. هناك سن مكسورة تعطيها نوعًا من الجاذبية الساحرة على طريقة ناعومى واتس. هو لا يعرف ناعومى واتس لكننا نعرفها، فلا بأس أن نتبادل معلومة كهذه.

قالت له:
- «كل شىء كان رائعًا حتى عامين مضيا عندما توفِّى أبى.. صرت أعيش وحدى مع ناهد فى بيتنا المنعزل على أطراف البلدة.. ناهد تشبهنى جدًّا لكنها تختلف عنى نفسيًّا..».
قال فى برود:
- «بمعنى؟».
ابتلعت ريقها وقالت:
- «شخصية قوية هى، تعرف ما تريد وتحصل عليه، لهذا استطاعت أن تكون صاحبة الكلمة الأولى فى البيت. نحن لا نأكل إلا ما تختاره هى.. نشاهد برامج التليفزيون التى تختارها هى.. نربى القط الذى اشترته هى... أثاث البيت هو ما اختارته هى...».
- «وهل هذا الدور لم يكن واضحًا من قبل؟».
- «لا.. لقد تضخم وجودها وكاد يُزهق أنفاسى. الأمر يشبه التوائم السيامية عندما ينمو توأم على حساب أخيه يتحول الأخ إلى ورم أو أنسجة.. هكذا أنا، صرت ظلًاًّ لها، وأحيانًا أشعر أنه لا وزن لى…».
فكر الطبيب حينًا ثم قال لها:
- «سوف يفيدنى أن أقابل ناهد هذه.. ربما أجلس معكما معًا».
اتسعت عيناها فى رعب وقالت:
- «لا.. لا يمكن أن أتكلم أمامها.. لكنى سأترك لها ورقة فيها عنوانك.. لربما تقرر أن تزورك».
ونهضت وهى ترتجف، أصلحت من شأن ثوبها ونظرت فى ساعتها ثم قالت:
- «حان وقت العودة إلى الدار.. يجب أن أعدّ لها طعام الغداء..».
- «هل تعملين؟ وهل تعمل هى؟».
- «أنا سكرتيرة، وهى رسَّامة.. طبعًا يمكنك فهم أننى مَن ينفق على الدار، لأنه ما من رسام يستطيع أن يظل حيًّا غير جائع فى مصر..».
تركها الطبيب تنصرف، ثم راح يدوِّن خواطره بصدد هذه الحالة. كانت مألوفة أكثر من اللازم.

عصر اليوم التالى أخبرته الممرضة أن مَن تُدعَى ناهد تنتظره فى الخارج. فتح اللابتوب وسمح لها بالدخول وراح يتأملها.. يحتاج إلى بعض الوقت كى يقابل امرأة تُدعى «ناهد» ولا تملك تلك الجاذبية الأنثوية. هى بالفعل تشبه أختها لكن شعرها أحمر.. لها عينان خضراوان شرستان.. لا عوينات... ثيابها أقل من محتشمة حتى إنه فكر أن يطلب الممرضة لتكون معه فى أثناء المقابلة.. أنثى خطرة.. ثم هذه السن المكسورة.. تبدو أنها وراثية فى الأسرة.

كانت ناهد تتكلم بثقة ووضعت ساقًا على ساق وقالت:
- «إذن فهذه البَلْهَاء سلوى تأتى لك لتشتمنى وتبدد نقودها عندك؟ أراهن أن هذا السيجار الثمين على مكتبك ابتعته بمال أختى!».
أدرك د. صابر أنها ستكون لحظات عسيرة.. واضح أنها متسلطة فعلًا.. المرأة النمر. قال لها فى صبر:
- «أختك تعانى من أن شخصيتك تلتهم شخصيتها، وعلىَّ أن أطلب جلسة مشتركة بينكما لأقنعها أنكِ لا تريدين إيذاءها».
قالت فى غيظ:
- «فلأُرِدْ إيذاءها أو لا.. ما دخلك أنت؟ هذه أمور أُسرية تمامًا..».
- «كنت أحسبها كذلك إلى أن طلبتْ رأيى.. لقد أقحمتنى أختك فى هذه القصة وعلىَّ أن أقوم بدورى».
نظرتْ إليه واتسعت عيناها المتوحشتان وقالت:
- «جئت لأقول لك إن القصة انتهت.. هى شخصية مريضة كانت تعتمد تمامًا على أبى.. مات أبى.. صارت وحيدة كريشة فى عاصفة.. أنا أقود سفينة هذه الأسرة ولسوف أفعل هذا سواء بك أو بدونك».
ثم مدَّت يدها فى حقيبتها وأخرجت مئتى جنيه وألقتها على المكتب:
- «هذه أتعابك.. والآن أرجو أن تطردها عندما تظهر ثانية».
وقبل أن يرد كانت قد غادرت المكان..

عندما جاءت سلوى فى اليوم التالى، كان يتمنى الخلاص منها فعلًا لكنه لم يجسر على ذلك.. قالت له:
- «هى فتاة شرسة.. أعرف أنها أهانتك وآذتك.. يمكنك تخيُّل ما أمر به..».
ثم ارتجفت من جديد وقالت:
- «سأعترف لك بشىء مخيف.. كل ما أقوله هنا سيظل سرًّا.. أليس كذلك؟ فى البدء بدأ القط يتوتر ويعوى.. يطلب الزواج.. كانت تحبه لأنه قطها لكنه أثار أعصابها، وفى يوم خدَّرته و.. واستأصلت رجولته!».
اقشعرّ الطبيب وهو يسمع هذا.. فاستعاد ما قالته وتساءل إن كان ما سمعه صحيحًا: ناهد استأصلت خصية القط ولم تأخذه إلى طبيب بيطرى؟!
- «بالتأكيد.. ألم أقل لك إن ناهد شريرة؟ المسكين ظل حيًّا بمعجزة ما..».

بالمناسبة.. ما هذه الخدوش فى يديها؟ ما السبب؟ نظرت بعيدًا وغمغمت:
- «ثم كان هناك سمير صديقى فى العمل.. شاب مهذب رقيق.. أراد أن يطلب يدى.. طلبت منه أن يأتى إلى بيتنا ليقابلها لأنها تَعتبر أنها أمى ومسؤولة عنى. لم أعرف أنها دعته إلى البيت ولم أعرف أنها قابلته وحدها بينما كنت أنا أزور قريبة لنا فى الإسكندرية».
- «هذا غريب.. لن تقولى إنها قامت بإجراء نفس الجراحة له!».
ضحكت فى مرارة وقالت:
- «لا أعرف.. لا أحد يعرف.. لم يظهر بعدها ولم يعرف أحد أين هو، وقيل إنه ترك العمل بلا إذن.. ماذا حدث فى تلك الساعات التى أمضاها فى دارنا؟ إن لدينا قبوًا ممتازًا وحول البيت مساحة أرض لا بأس بها.. هل يمكن أن يكون هناك؟ لن نعرف أبدًا..».

وراحت تتنفس فى عصبية، ثم غطت وجهها وتهاتفت. بصعوبة استطاع أن يخفف من روعها وأن يقنعها بالعودة إلى البيت. قال لها إنه سيمرّ على الدار ليلًا ليقابلها هى وأختها وينهى الأمر. قالت فى حدة:
- «لن تقابل أختى معى أبدًا.. إما أنا وإما هى!».
- «سوف أقابلكما معًا!».

عندما انصرفت سلوى أخيرًا اتجه إلى اللابتوب الذى وضعه فى مكان استراتيجى يسلط عدسته على من يجلس على الأريكة بالضبط.. هنا صورة لسلوى عندما كانت عنده منذ دقائق،. وهنا صورة لناهد عندما جاءت أمس.. يضع النافذتين متجاورتين. الشبه يكاد يكون واحدًا.. واحدة شعرها أسود وواحدة شعرها أحمر، لكن منذ متى لا تضع النساء شعرًا مستعارًا؟! العوينات تغيِّر الشكل بالتأكيد. ناهد ذات عينين خضراوين.. لم يعد للأنثى لون عينين ثابت منذ ظهرت العدسات اللاصقة! السن المكسورة واحدة تقريبًا! تغيير الثياب يُحدث المعجزات... الخدوش فى اليد وما حدث للقط...

فى المساء ذهب إلى العنوان. مكان مهجور فعلًا. قرع الباب مرارًا فإذا به ينفتح وتظهر سلوى. لما رأته امتقع وجهها ولطمت وطلبت منه عدم الدخول، لكنه أزاحها ودخل.. ثمة قط حزين ينظر إليه فى ريبة.
قال لها:
- «أين ناهد؟».
- «هى ليست.. ليست هنا».
قال فى ظفر:
- «ولن توجد معك أبدًا فى مكان واحد لأنكما نفس الشخص. القصة مكرَّرة ومملَّة أكثر من اللازم. هناك جزء من شخصيتك يعانى الكبت والتهميش، ثم قرر أن يتحرر ليصير فتاة مسيطرة شريرة. على الأرجح تمارس أعمالًا لا تعرفين عنها شيئًا.. الفصام.. الشخصية المزدوجة من أعراض الهستيريا لكنها ليست معبِّرة عن السكيزوفرنيا كما يعتقد الناس، وأنتِ هستيرية. أعتقد أن لديك فى غرفتك ثيابًا خليعة وعدسات ملتصقة خضراء.. ولا شك فى أنكِ من أجريتِ جراحة القط المؤلمة ولربما جراحة الشاب الذى أُعجب بك».
ثم أردف:
- «العلاج النفسى سوف يُجدى.. لكن عليك الاعتراف أولًا بـ…».
لم يكمل العبارة لأن المزهرية هبطت على رأسه لتتهشم ويسقط هو على الأرض..

صرخت سلوى فى ذعر:
- «أنتِ قتلته أيتها العاهرة!».
قالت ناهد وهى تركل الجسد الساخن:
- «ما زال حيًّا.. وما زال صالحًا لجراحة كالتى أجريتها لسمير وكل من يأتى من طرفك... إنه غبى كالعادة.. رأى الكثير من الأفلام السخيفة وقرأ روايات تافهة، وامتلأ رأسه بالهراء عن الفتاة التى تتحول إلى شخصية أخرى ليلًا... هذه هى مشكلة التفكير النمطى.. لم يخطر له أننا شقيقتان فعلًا!».
ثم تحسست أسنانها بلسانها وقالت:
- «ذلك الغبىّ سمير لم يفقد الوعى بسهولة يومها.. كسر لى سنًا فجعلنى قبيحة مثلك تمامًا.. لكنه الآن ينام فى سلام فى القبو، وقد حان الوقت كى يظفر بصديق!».

تمَّت