فقدنا الأبنودي، ففقدنا جوهرة أخرى من تاج الفن المصري والقوة المصرية الناعمة.. ليس هناك واحد لم تترك كلمات الأبنودي علامة في عقله أو قلبه.. إنه جزء من نسيج حياتنا والهواء الذي نتنفسه. كل هذا مفهوم.. ما لم أفهمه هو التعليقات التي ظهرت في بعض الصحف وعلى مواقع الإنترنت.
في مواقع الليبراليين: الرجل ساند العسكر.. في مواقع الإخوان: الرجل أيد الإطاحة بمرسي.. في مواقع اليساريين: الرجل لم يصطدم بالسلطة قط وظل على يمين الحاكم في كل العصور، ولم ينضم لثورة يناير إلا عندما تأكد من أنها طوفان جارف.
أعادني هذا الموقف لظاهرة تتكرر دائما في المواقف المشابهة.. العزاء المشروط المتحفظ.. فلان موهبة عظيمة، لكن كذا وكذا.. وضع موقفه السياسي.
من أقسى الأمثلة على ذلك وفاة العظيم صلاح جاهين، عندما نعاه كاتب ماركسي شهير، فنعى بشكل حصري أعوام جاهين قبل 1967! بعد هذا لا يحمل له احتراما لأنها أعوام (يا واد يا تقيل).. هذه طريقة نادرة في العزاء المشروط المتحفظ .. أن تنعي أعواما بعينها من حياة فنان، لأنها تناسبك سياسيا، بينما صلاح جاهين أكبر بالتأكيد من أي موقف سياسي.
كتبت من قبل أنعي فقيد الكاريكاتور العظيم مصطفى حسين، فقلت في نفس المقال: "الرجل بالتأكيد لم يصطدم بالسلطة قط، ولم يكن معارضا جريئا يصعب إسكاته مثل عم حجازى أو عمرو سليم.. أحببت كل خط رسمته يد مصطفى حسين، لكني بالتأكيد أحبه أكثر عندما يبتعد عن السياسة. في الحقيقة كانت طبيعة الصحف القومية تجعلها موجهة فقط لشخص واحد تحرص على رضاه.. شخصية قاسم السماوي هي استجابة لكلام السادات عن (مجتمع الحقد)، و(عزيز بك الأليت) هو استجابة لكلام السادات عن البهوات والأفندية الأرذال.. عندما قال السادات إن القذافي مجنون صارت كل رسوم القذافي تظهره بالكسرولة على رأسه وهو جالس على قصرية.. في كل زمن كان بوسعك أن تدرك الاتجاه الرسمي للحكومة عندما ترى الكاريكاتور الذي رسمه، لكني بصراحة لا أبالي بهذا".
قلت هذا وقتها وأرى أن هذا الكلام ينطبق على أحمد رجب وعلى الأبنودي بشكل كبير.
لا شك أن الأبنودي تحدى الحكومات كثيرا جدا وأخرج لها لسانه مرارا، ومازلت أذكر تواجدي في نقابة الصحفيين بالقاهرة، عندما اجتمع الصحفيون يدينون القانون 93.. كان هناك مهرجان من الغناء والشعر، ثم ظهر هو بطريقته المميزة ليلقي قصيدته الشهيرة "أحزاني العادية" التي ألهبت المشاعر فعلا.. ومازلت أشعر بقشعريرة كلما رددت بعض مقاطعها.. تأمل هذا المقطع: "إيه باقي تاني علشان تبقي عليه؟ وطنك؟ متباع.. سرك؟ متذاع.. الدنيا حويطه وانت بتاع"، أو هذا المقطع: "واحنا ولاد الكلب الشعب.. احنا بتوع الأجمل وطريقه الصعب، والضرب ببوز الجزمه وبسن الكعب، والموت في الحرب"، لكن الأبنودي كذلك هو الذي كتب الكثير من أوبريتات الشرطة!
هكذا ندرك أنه شاعر موهوب، لكنه شديد الذكاء وليس "الفاجومي". الفاجومي حسب تعريف أحمد فؤاد نجم هو الجدع المندفع الأحمق الذي يضرب رأسه في الجدار دائما.. هنا ندرك مدى ذكاء الأبنودي.. لقد استطاع دوما أن يبقى على مسافة معقولة من السلطة، فلم يتهمه أحد بأنه من شعراء السلطان، وفي الوقت نفسه لم يصطدم بها إلى درجة أن يقضي حياته في السجن أو يفلس.
الناس والثوار يحبونه لأنه قريب منهم، والحكومة تحبه وتجزل له العطاء لأنه قريب منها، لهذا كان الصدام محتوما مع نجم.
في كتاب الفاجومي يحكي نجم عن الشاعر الذي يزعم أنه صعيدي، وهو ليس كذلك، لأن الصعايدة جدعان وهو مش جدع، وأنه ظهر في التلفزيون في عصر عبد الناصر فلم يدافع عن زملائه المسجونين، بل راح يقول قصائد يفضح بها تجار (الدجيج) الغشاشين، ثم يقول للمذيعة إنه دليل حي على أن حكومة عبد الناصر لا تعتقل الشعراء مهما قالوا في نقد الفساد!
كل هذا جميل ونوافق عليه، لكن الآراء السياسية والمواقف تزول وتبقى جذوة الفن اللاهبة، وإلا لكان عليك أن تدمر كل أعمال عمار الشريعي الذي اعتاد تقديم أوبريت أكتوبر كل عام، وملحن أغنية "اخترناك"، التي هي صلاة مخلصة لمبارك، وماذا عن كل كتابات أحمد رجب الذي كان مع مصطفى حسين صوت الحاكم ومزاجه الخاص؟ إما أن تقبل عبد الوهاب بألحانه العبقرية والثورة التي أحدثها في عالم الموسيقى الشرقية، وإما أن ترفضه لأنك تعرف خوفه من السلطة، وكيف كان يتردد كل خميس على بيت أحد مراكز القوى في عهد عبد الناصر، ليقدم له حفلا "ملاكي" بصوته لمجرد أنه يخاف المواجهة.
سيكون عليك أن ترفض كل تراث أم كلثوم لأنها كانت ذات علاقة قوية بعبد الناصر، وكانت مركز قوى حقيقيا.. دعك من "هيص يا كلب الست هيص.. لك قرايب في البوليس".
هل سمعت لحن كارمينا بورانا الساحر؟ هذا ما بقى من كارل أورف الموسيقار الألماني العظيم الذي كان يرتجف خوفا من النازيين، لدرجة أنه أبلغ عن أصدقاء له.. سوف يكون عليك أن ترفض فاجنر الذي آمن بسيطرة الجنس الآري، وهو رافد مهم من روافد النازية.
المتنبي العظيم هجر سيف الدولة الحمداني وجاء مصر يمتدح كافور الإخشيدي، لكن الحاكم الأريب لم ينخدع ولم يجزل له العطاء كما أراد، هكذا انقلب موقف المتنبي 180 درجة وانهال على الرجل بشعر قذر عنيف جدا، وكما يقول طه حسين: "المتنبي في قصته مع كافور كلها صغير حقا.. صغير حين مدح، وصغير حين هجا، وصغير حين رضى، وصغير حين غضب، لكن صغره هذا لا يمنعه من أن يهجو فيجيد، ومن أن يريد إضحاك الناس فيبلغ ما يريد"
هل تحرق أشعار المتنبي لأن مواقفه السياسية متلونة؟
الفنان موقف.. هذا صحيح، لكن الأمور ليست بهذه البساطة.. أحيانا تكون الموهبة متأججة حارقة.. تعيش أعواما طويلة بعد وفاة صاحبها، فلا يذكر الناس موقفه السياسي، وفي النهاية يبقى شيء آخر مهم اسمه قيم الفروسية.
قد يكون هذا الكلام دقيقا وقد يكون خاطئا، لكن أسوأ وقت لمحاسبة فنانينا على مواقفهم السياسية هو عندما ننفض التراب عن أكفنا ونحن نفارق قبورهم، بينما سحابة الغبار لم تنقشع بعد.