قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Thursday, September 3, 2015

اقتلوا حامل الرسالة



لم أستطع قط نسيان قصة يوسف إدريس العبقرية عن عالم الأنثروبولوجي الذي ركب حافلة مزدحمة كعادته اليومية، ففوجئ بأن رجلاً يتحرش بامرأة.. يتحرش بها لدرجة أنه بدأ رفع ثوبها من الخلف، والعرق يسيل من جبهته وهو يلهث كالثيران، هنا صرخت المرأة:
ـ"الحقوني يا ناس.. ده بيقلعني هدومي!"

هنا انهال عليها المتحرش بخمس أو ست صفعات، وراحت الحافلة كلها تشتمها وتتهمها بالعهر. لو كانت مؤدبة حقًا لما أحدثت هذه الضوضاء. وسرعان ما تم طرد المرأة من الحافلة مبعثرة الثياب مهانة.  كاد عالم الأنثروبولوجي يجن من فضوله العلمي لفهم هذه الظاهرة، فهو لم يتخذ موقفًا أخلاقيًا بل علميًا. صاح وسط الحافلة أن يا قوم كلكم عرفتم أن الرجل تحرش بها، فلماذا لم تعينوها وانهلتم عليها بالشتائم؟ النتيجة هي أن الصفعات انهالت عليه هو مع الشتائم، وسرعان ما وجد نفسه بدوره ملقى على الأسفلت ممزق الثياب مرضوضًا. لم يستطع قط فهم هذه الظاهرة الغريبة، لكنه واصل ركوب نفس الحافلة يوميًا لأنه لا يوجد حل آخر للذهاب لكُليته!

حكى كاتب كبير (لا أذكر اسمه) أنه وصف قبلة في قصة من قصصه (في ربع صفحة)، فانهالت عليه الشتائم ووصفوه بالداعر، وفي الوقت نفسه نفد أحد اعداد المجلة من السوق خلال ساعتين، لأنه يحكي بالتفصيل عن ذئب بشري اغتصب طفلة في السابعة، وكيف مزق ثيابها وكيف...

لا أكف عن تذكر هاتين القصتين هذه الأيام...    

كنت قد اتخذت قرار التوقف عن كتابة المقالات نهائيًا، والسبب هو الطريقة التي يتعامل بها القارئ مع مقالاتي مؤخرًا: 

أولاً هناك موضة (ليس هذا المقال له.. أشك). وهي موضة قديمة على فكرة بدأت منذ عام، وأعتقد أنها نوع من التذاكي على طريقة مخبر البوليس الذي يضيق عينيه في ذكاء، ويبرم شاربه ويقول: "مش هو الأسلوب.. آني عارفه". مما يذكرني بالعجوز ضعيفة البصر التي دخلت العرض القانوني بحثًا عن قاتل زوجها في قصة توفيق الحكيم، فلم تختر سوى وكيل النيابة الشاب لتلطمه في صدره صائحة: (غريمي)!.

بلغ التشكيك درجة أنني أعتقد أن أحمد خالد شخصية وهمية ولم يوجد قط، وعلى الأرجح هناك عدة كتاب تناوبوا على كتابة سلاسل ما وراء الطبيعة وسافاري وفانتازيا. لربما مات عام 2001 ومن يظهر في حفلات التوقيع ممثل بارع.

أعتقد أن كل قارئ صار يريد أن أكتب رأيه بالضبط، وإلا اتهم المقال بأنه ليس لي. هذا معناه أنه لا يحب كتاباتي بل يحب كتابات شخص وهمي صنعه في خياله اسمه العراب.. وهذا العراب يقول رأي كل واحد بالضبط..  والحقيقة المؤلمة هي أن هذه مقالاتي أنا. ولهذا لم أتحمس قط للقب العراب لأنه يضع على عاتقي مسئولية شديدة، ويفترض صورة مثالية وهمية لا أملكها.  وكما رأينا يمكن للقارئ أن يمزقك بسهولة في أي لحظة. وقد تعلمت من خبرتي أن الإطراء الزائد يجلب الكثير من الهجوم الشرس الزائد.

ثم إنني لا أستبعد دور اللجان الالكترونية كما قلت للتشكيك في كل ما أقول.. ذات مرة كتبت مقالاً يقول إن الطعام فاسد والمياه ملوثة، فانبرى أحدهم يصرخ: "هذا ليس أحمد خالد.. مش ممكن يقول إن المياه ملوثة ويهاجم مصر..  الأدمن هو من كتب هذا" وراح ينشر في كل النت أن موقع أحمد غباشي مزيف!

أوضحت أكثر من مرة أن مواقع (أحمد غباشي / أحمد رسلان)  وموقع (عمرو عبيد) وموقع (روايات الرسمي) هي مواقع أثق بها وأصحابها أصدقائي، ولا تنشر مقالاً إلا وكان لي فعلاً. لكن التشكيك صار هواية. هكذا صار عليّ إثبات أن المقالات التي كتبتها هي مقالاتي فعلاً، وأن المقالات التي كتبها آخرون ووضعوا عليها اسمي ليست مقالاتي!

ثانيًا: جاءت طامة مقال (أباحة) الأخير. أنا لا أقرأ الردود أبدًا سواء بالمدح أو القدح. تعلمت هذا منذ ثلاث سنوات أيام المجلس العسكري، عندما كان الكل يشتمون بعضهم بالأم، لكن أحيانًا يرسل لي أحد القراء على بريدي بعض الردود في موقع الإنترنت، من منطق (الحق بيقولوا إيه)...

ما حدث في المقال الأخير هو حالة من الحساسية المفرطة لدى القراء، لأنني قلت إن التلفزيون يعلن عن مناديل إطالة وقت والبنات يكتبن (ابن الـ.. ) - سأختصرها هذه المرة منعًا للهستيريا - وهناك إعلانات عن غشاء البكارة.. انا لم أخترع شيئا من هذا وقلت إنه موجود فقط، مع الكثير من التحفظ فلم أنقل شيئًا تقريبا. وعلى فكرة هناك مقال كامل عن إعلان غشاء البكارة هذا (أخذت منه بعض الفقرات هنا) نشرته منذ عامين فلم يحتجّ أحد ولم يحدث رد فعل مماثل. أعرف ظاهرة الإشعاع السايكوفيزيائي هذه عندما يصيح أحدهم في هستيريا فيتبعه الجميع.. وتنهال الردود المذهولة.  

  لكن طريقة (اقتلوا حامل الرسالة Kill the messenger) كما يقول الغربيون سيطرت،  ولم يهاجم الناس المرض بل هاجموا الطبيب الذي يقول إن هناك مرضًا... "ياي".. كيف يجرؤ هذا الرجل القبيح على أن يقول إن هناك الكثير من الإباحية في النت اليوم؟؟ كم هو وقح! وصدمتهم كلمة يضحكون حتى الموت عندما يقولها "إتش دبور". في برنامج رامز جلال استعملت كلمة كريهة الرائحة معناها (الغائط) ست مرات، فلم يعترض أحد بل ضحكوا وشتموني عندما انتقدت البرنامج!.

ناقل الكفر ليس بكافر... وعلى من يلومني على ذكر هذا أن يلوم أولا الفتاة التي تكتب هذا في موقعها.. ويلوم التليفزيون الذي يسمح بإعلان كهذا... وقد وصلتني خطابات كثيرة تتجاوز المئة تعضد موقفي، لكن بعد انفجار بركان الهستيريا العجيب هذا..  كمية حساسية وتهذيب وتدين مذهلة فعلاً. هذا شعب من الملائكة أرقى من السويديين بمراحل.

ومن جديد تكررت عادة التأكيد على انني لم أكتب هذا المقال.. وصلني قبل هذا ألف خطاب يتساءل إن كنت أنا كاتب مقال رامز جلال. فجأة صار الكل خبراء في الأسلوب ويشمّون أسلوبي من على بعد أميال.. مش هو... باينة خالص..

 كنت قد اتخذت قرار التوقف عن المقالات والعودة للقصص وارتحت له، خاصة أنني اعتذرت عن عدم الكتابة لمجلة الشباب منذ ثلاثة أشهر، وتوقفت جريدة التحرير عن الصدور فلم تبق سوى جريدة اليوم الجديد. أي أن التوقف سهل ولن أفقد الكثير.. وكتبت كلمة أخيرة تنتهي بعبارة "لو أرادوا أن يوقفوني عن كتاب المقال فأنا أهنئهم.. لقد نجحوا". 

لكن أصدقاء أعزاء أقنعوني أن تكون فترة راحة لاستعادة الهدوء. وهأنذا قد عدت بعد شهر ونصف تقريبًا.. 

في النهاية أنا أحمد خالد فعلاً فلا داعي لتكرار التعليق السخيف المعتاد في الفترة الأخيرة (مش هو).. القصة القادمة بعد إيكاروس هي (ممر الفئران) وهي مستوحاة من أسطورة أرض الظلام، والمقال القادم في جريدة "اليوم الجديد" يتكلم عن ابنتنا (مريم ملاك)، ولن أذكر رقمي القومي طبعًا لأنكم لا تعرفونه لتقارنوا.