قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Tuesday, March 9, 2021

بأحب السيما



مع الاعتذار طبعًا للفيلم الجميل الذي قدمه (هاني جرجس فوزي)، لكني لم أجد عنوانًا أفضل خاصة والفيلم يحكي في ثلثه الأول طفولتي تقريبًا. أشك فعلًا في أن أي مخلوق على ظهر الأرض أحب فن السينما كما كنت في صباي، وكنت أنبهر بكل شيء فيها.. بالخدوش على جانب الكادر وعلامة تغيير البكرة، والجلوس في الظلام بانتظار الشعاع المحمل بالأحلام الملونة القادم من نافذة العرض.. عشقت صوت هدير الآلة واهتزازها ورائحة التبغ (كان التدخين مسموحًا به في دور السينما وقتها) وذرات الغبار المتطايرة في الشعاع.

فيما بعد قدم اثنان من عاشقي السينما هما تارانتينو ورودريجز فيلم Grindhouse وهو يحمل تحية خاصة لأفلام السبعينيات، وقد حرصا على أن يحمل الفيلم المصور حديثًا نفس الخدوش واهتزاز آلة العرض كما كان يحدث في الأفلام القديمة. نفس طريقة كتابة التترات وصوت المعلق.. حتى إن الفيلم يحترق ويذوب في إحدى اللقطات. بالطبع كنا جميعًا نعشق عبارة (العرض القادم) الذي لم نكن نعرف أن اسمه (تريلر)، وبسبب هذا الحب قدم المخرجان المجنونان إعلانات عن عروض قادمة لأفلام لم توجد قط، على غرار (ماشيتي) و(لا تفعل).. إلخ.

لم يقتصر حبي على ما نراه على الشاشة بل امتد إلى دار السينما نفسها.. كل ركن فيها حتى الحمامات عطنة الرائحة وحتى العامل الذي يقودك لمقعدك.. كنت أعتبر هؤلاء سحرة ممن يملكون مفاتيح هذا العالم الخيالي، فلا أستبعد أنه بعد ما نرحل يجلس طرزان وجيمس بوند وفرانكنشتاين وشيرلوك هولمز مع هؤلاء.. بينما يذهب أحد عمال السينما لشراء شطائر للعشاء، ويجلس الجميع يثرثرون ويمزحون.. يتوتر الجو نوعًا عندما يصل الكونت دراكيولا، لكنه لن يمتص دماء زملاء المهنة طبعًا!

أذكر جولاتي حول الأبواب الخلفية لدار السينما بحثًا عن مفاجأة من السليلويد.. هناك أجزاء فيلم تنقطع ويتخلص منها العامل.. هكذا أجمعها أنا وأهرع للبيت منتشيًا لأقوم بدراستها بالعدسة.. ثم أضعها في مركز بؤرة عدسة وأضيء مصباحًا خلفها ليصير عندي فانوس سحري مرتجل، وأدرس الكادر على الجدار.

ذات مرة وجدت كادرات من فيلم ملون أجنبي.. وحتى في سن العاشرة كنت أعرف أن هذه لقطات مضغوطة من فيلم سينما سكوب، وفيما بعد تقوم عدسة (الهيبر جونار) بفرد الصورة لتصير عريضة. كانت اللقطة التي لفتت نظري تظهر رجلًا أفريقيًا يلبس جلد نمر ويحمل رمحًا وخلفه مشاعل، وهناك ترجمة عربية تقول: "النائمون؟ عملية سهلة"

هكذا راح خيالي يعمل كالمجنون لتخيل ما كان قبل وبعد هذه الجملة. هذا الرجل كما هو واضح قاتل.. على الأرجح هو من قبيلة من أكلة لحوم البشر. هناك من كلفه بمهمة مهاجمة معسكر فيه نائمون.. سوف يذبحهم وهم نيام وبالتالي هي عملية سهلة. هل المعسكر الذي ينوي مهاجمته خاص بالرجل الأبيض أم بقبيلة أخرى؟ لو كانت قبيلة أخرى فلماذا يكلفه شخص آخر بهذه المهمة؟
 
جربت مرارًا أن أسأل كل أصدقائي عما إذا كانوا رأوا أفلامًا فيها عملية سهلة تتضمن قتل النائمين. لكن لم أجده قط.

أعتقد أنني رأيت ما يشبه هذا الجنون بوضوح في (بحب السيما) وبوضوح في (سينما باردايسو).. ويبدو أن الطريق كان ممهدًا أمامي لأصير مخرجًا أو مصورًا أو عامل عرض، لكني صرت طبيبًا في ظروف مجهولة.

لم يأت هذا الحب من فراغ، إنما تكون نتيجة لولع أبي الخاص بالسينما. كان يوم الثلاثاء هو بداية الأسبوع السينمائي، فكان أبي يصحبني معه للسينما في ذلك اليوم كل أسبوع. في البداية كان يصحب الأسرة كلها، ثم وجد أن العبء المادي والمعنوي ثقيل وأننا معًا سنكون أخف بكثير.

تبدأ الأمسية بشراء شطائر السجق من مطعم قرب دار السينما، ثم نتجه لنجلس في مقاعدنا.. كلمني أنا عن الإثارة العظيمة للانتظار في الظلام، ثم تسمع هدير آلة العرض وتظهر بطاقة الرقابة ثم أسد مترو جولدوين ماير على الأرجح.. ربما حاملة الشعلة الخاصة بشركة كولومبيا أو كرة يونيفرسال الأرضية أو جبل باراماونت.. هناك أفلام كانت تظهر رجلاً وامرأة يحملان شعلة وهذه علامة شركة موسفيلم السوفييتية. تخصصت سينما أوديون في عرض هذه الأفلام وفي ذلك الوقت كانت كلها حربية.

المهم أن أبي كان من يختار الفيلم طبعًا، وبالطبع لم يكن مولعًا بأفلام طرزان أو أفلام كنج كونج.. لذا لاحظت أشياء معينة.

في البداية كانت هناك دائمًا دبابات وهناك ضباط نازيون وصلبان معقوفة.. هناك دائمًا قصف مدفعية وطيران وجيوش تلتحم ببعضها، ثم يظهر هذا الجنرال أو ذاك ليصرخ:
"يجب الاحتفاظ بالجسر!"
لكنهم لا يحتفظون بالجسر، وتنهال عليه القنابل ليملأ الدخان الشاشة.

كنت أستمتع بهذا كله، وعرفت معلومة جديدة هي أن الأفلام التي تعرض في السينما حربية دائمًا، فلا يمكن أن تكون عاطفية أو غنائية أو مضحكة كالتي يعرضها التلفزيون. السينما مكان تجلس فيه في الظلام تأكل السجق وتشاهد النازيين.. لا يوجد لها تعريف آخر.

أبي كان يعشق الأفلام الحربية، وكان يحكي لي عن موقعة نورماندي واقتحام برلين وغزو فرنسا.. إلخ.. كأنه يحكي قصة حب قديمة.. بل إنني بلغت درجة رأيت فيها نفس المعركة بعدة أساليب سينمائية. الأسلوب الأمريكي المبهرج المليء بالبذخ، والأسلوب السوفييتي الكئيب بإيقاعه البطئ.

لم يلحظ أبي التغيرات التي طرأت علي مع الوقت.
لقد صرت أتصرف كضابط نازي فعلًا.. أمشي مثلهم وأمد يدي مشدودًا وأصيح:
"هايل هتلر!"

لقد صار العالم بالنسبة لي دبابات محترقة وطائرات تقصف المشاة في الصحراء.. وألغامًا تنفجر فتطير السيقان. كانت أمي هي أول من لفت نظر أبي إلى تأثير هذه الأفلام عليّ، فقد صرت أمشي متخشبًا، وأرسم الصليب المعقوف على كل كراساتي، وأؤدي التحية النازية ألف مرة في اليوم.. دعك من أنني بدأت أحلم بوضع القط في الفرن، وصرت أطلق على مدرس اللغة العربية لقب (الفوهرر). سألني أبي عما إذا كنت أحب الأفلام الحربية فقلت في حماسة:
"يا.. مايني فراو!"
سألني عما إذا كنت أرغب في مشاهدة نوع آخر من الأفلام فقلت (ناين).. قال لأمي إن كل شيء على ما يرام.. لكن أمي لم تبد مقتنعة.

خيرته أمي بين اختيار نوعية أخرى من الأفلام أو الامتناع عن الذهاب للسينما نهائيًا.

هكذا وجد أبي أن عليه أن يقلع عن غرامه الشديد بالأفلام الحربية ويكتفي بما يراه منها يوم الأحد في التلفزيون في برنامج اسمه (السينما والحرب). رحت أحاول إقناعه بمشاهدة أفلام طرزان فلم يبد متحمسًا.. كان يرى أن أسخف شيء في الدنيا أن يجلس المرء يشاهد رجلاً يحيا وسط القرود ويتدلى بحبل من الأشجار.

يوم الثلاثاء التالي اصطحبني أبي للسينما وابتاع لي السجق، ثم حدثني عن أهمية أن نرى أنواعًا أخرى من السينما فليست المدرعات هي كل شيء.

الفيلم الذي شاهدناه في تلك الليلة السوداء كان يظهر امرأة تركض صارخة في صالة دارها.. تدخل غرفة نومها وتغلقها. طبعًا لينفتح ستار المخدع ويخرج من خلفه الأخ كرستوفر لي والدم يسيل من جانب فمه.. له أنياب كالذئاب وعينه حمراء كعين طالب ثانوية عامة ليلة الامتحان.
هذا هو الأخ دراكيولا.

ولم أتصور قط أن العالم يحوي هذا القدر من الرعب، ولفترة لا بأس بها كنت أنام لصيق أبي في الفراش كخفاش.. يتقلب فأتقلب معه.. ينهض فأنهض معه.. وصرت أمقت أي مكان أكون فيه وحدي في أي وقت. برغم هذا أثار دهشتي أنني راغب في المزيد.. أريد رؤية أكثر.

فيما بعد عرفت أن معظم هذه الأفلام هي من إنتاج شركة هامر البريطانية، وهي أفلام سوف تضحكك جدًا لو رأيتها اليوم لكني وقتها لم أكن على أي استعداد للضحك... هكذا بدأت حقبة جديدة لأفلام من نوعية (دراكيولا مصاص الدماء) و(دماء من أجل فرانكنشتاين) و(ليلة الموتى الأحياء).. إلخ.

مع الوقت أدرك أبي أنني راغب فعلًا في مشاهدة هذه الأفلام فبدأ يصحبني بانتظام.

ومع الوقت لاحظت أمي أنني تخليت عن نازيتي لأمور أهم.. صحيح أنني بدأت أتغير وصحيح أنني كدت أمتص دم أختي وهي نائمة، وكدت أقتل ابن خالتي بوتد في صدره (عصا المكنسة المكسورة)، ورحت أحلم بقضاء النهار كله نائمًا في تابوت.

هذا التثبيت الشديد أدى في النهاية إلى أن أكتب قصص الرعب.. ربما كانت وسيلة لأكون خلف المدفع ولا أظل أمامه.. أن تخيف الناس يوهمك بأنك أكثر شجاعة.

في المدرسة الإعدادية ظهر اختراع جديد تحدث الكل عنه. الاختراع يدعى بروس لي وهو رجل آسيوي نحيل عصبي يصدر صوتًا كالبط المختنق ويقدر على هزيمة عشرة رجال.. دخلت السينما لأكتشف هذا البروس لي ويبدو أن كل صبية تلك الفترة دخلوا معي، وهكذا بدأت حمى بروس لي في حياتنا جميعًا.. والنتيجة هي أنوف تنزف وركب محطمة وكسور ورضوض لدى الجميع.

هنا كان أبي قد كف عن اصطحابي للسينما.. لم يعد يذهب للسينما بتاتًا كأنه تشبع أو سئم اللعبة، وتركني أختار الأفلام التي تروق لي. ولا شك أن أول رحلة قمت بها للسينما مع رفاقي كانت مغامرة مثيرة فعلًا.. الفيلم كان يدعى (ما زلت أدعى ترينتي) وقد حكيته لكل مخلوق على الأرض حتى أوشكوا على الانتحار.

في الأعوام التالية رأيت كل الأفلام الغربية الرديئة التي يطلقون عليها (أفلام الحرف ب). وسر الحرف (ب) هو أن هذه الأفلام لم تكن تعرض وحدها وإنما ضمن برنامج من فيلمين، وكانوا يطلقون على الفيلم الأول (أ) دلالة على أنه أرقى وأكثر تكلفة. لا ننكر أن الأفلام (ب) مسلية ولها من يحبونها.. إن في تفاهتها سحرًا خاصًا بلا شك. فمن أفلام العصابات التي تضع مخططًا محكمًا للسطو على المصرف، إلى أفلام المواد المشعة التي تكمش الأشخاص أو تكبرهم أو تجعل الموتى يصحون من قبورهم. وحتى أفلام الكونج فو ذات الصبغة الصفراء البنية المميزة.

كانت هناك ممثلات تخصصن في أفلام حرف (ب)، ويطلقون عليهن (ملكات الصراخ)، لأن دور الفتاة منهن لا يزيد على أن تصرخ وأن تكون حسناء. ومن العلامات السهلة على هذه الأفلام أن ترى صورة وحش بحري أو مسخ من تحت الأرض أو هيكل عظمي حي، يحمل فتاة صارخة شبه عارية، وهو منطق لا أفهمه.

إن الدب لا يفرق بين فتى وفتاة في الالتهام، ولعله يفضل الفتى لأن عضلاته أضخم وغالبًا مذاقها أفضل، أما عن الجمال فلا شك أنه يفضل دبة تشبهه.. وبالتأكيد يرى الفتاة قبيحة كالدببة. هذا هو المنطق السديد.

يحاول صانعو هذه الأفلام إقناعنا بأن هذه المسوخ والوحوش تفضل الفتاة الحسناء البشرية مثلنا.. وهكذا ترى صورًا غاية في الغرابة مثل كائن المريخ الذي له ثلاث أعين ويخرج لسانه من قفاه وله ذراع واحدة في منتصف صدره.. هذا الكائن يحمل فتاة حسناء صارخة ويفر بها بينما البطل الأرضي يطلق عليه مسدس الليزر. ماذا سيفعله المسخ المريخي بها؟ بالتأكيد هو بحاجة إلى فتاة مريخية مثله لها ثلاث أعين ويخرج لسانها من قفاها ولها ذراع في منتصف الصدر. لابد أن هذه الفتاة تبدو له مقززة.

هكذا قضيت شبابي في عشق مستحيل لهذا الاختراع الساحر.. احتجت لوقت طويل جدا حتى تعلمت أن أتعامل معه بحيادية أو لا مبالاة. اليوم لم أعد أهتم به بنفس الجنون السابق، وكعادة كبار السن أقول لنفسي: لم يعودوا يصنعون الأفلام كما كانت في الماضي. ربما هذا صحيح وربما ذبلت حلمات التذوق على لساني.. تلك التي كنت اذوق بها هذه الأفلام في مراهقتي. وربما أن كثرة وسائل الترفيه وسبل الإبهار جعلت السينما بلا طعم، بعد ما كانت نافذة السحر الوحيدة في مراهقتي.

لا أعرف حقًا.. لكني أتمنى يوم ثلاثاء واحدًا من أيام أبي.. وشطيرة سجق وفيلمًا من أفلام الحرب العالمية الثانية يدور حول جسر ما يحاول النازيون نسفه.