من كتاب "الآن أفهم"
راح (شريف) يداعب مفاتيح الكمبيوتر قليلًا، ثم تأمَّل أحد دفاتر بطاقات الائتمان.. راح يعبث في الدرج حتى أخرج علبة أقراص البنادول.. ابتلع ثلاثة أقراص مرة واحدة ببقايا كوب الماء، ثم طلب قدحًا من القهوة.
لاحظت (فاتن) المتدربة الشابة الجالسة جواره ذلك، فقالت في قلق:
ـ "ثالث مرة تشرب فيها القهوة والوقت لم يتجاوز العاشرة صباحًا"
رسوم فواز |
هذا صحيح.. والأسوأ هو أنه لا يعرف أن سبب الصداع ارتفاع في ضغط الدم، وأنه بالقهوة يحفر قبره ببطء.. الصداع الناجم عن ارتفاع الضغط لا يعالج بالقهوة.
لكنه لا يبالي حقًا.. فعلًا لا يبالي بشيء. ثمة شيء في الطريقة التي يشرب بها القهوة يُذكِّر (مجدي) بسكير في حانة يشرب كأسه العاشرة.
كانت (فاتن) معجبة بـ (شريف) جدًا.. لكنه لا يبالي.. لم يعد شيء في العالم قادرًا على تحريك عواطفه منذ.. منذ ماذا؟ لا أحد يعرف بالضبط.. لكن الأمر يوحي بقصة حب فاشلة لن تُمحَى أبدًا.
(مجدي) المحاسب الآخر يحب (فاتن) منذ جاءت للمصرف منذ ثلاثة أشهر.. العملية معقدة جدًا كما ترى.. أ يحب ب وج يحب أ.. هذه العلاقات الشهيرة حينما تجمع مجموعة من الشباب المليء بالحيوية في مكان عمل واحد.
*******
كنت أراقب زملائي في العمل.. غافلين هانئين.. أمسك بدفتر الائتمان وأقلب صفحاته في شرود.
من المُسلِّي أن تعرف أنك تمسك في يدك بمفتاح حياتهم وموتهم.. هم لا يعرفون ذلك.. تذكرت عندما كنت أقف في الحمام أراقب ذلك الصرصور الصغير يزحف على البلاط (القيشاني).. لم يكن السيراميك معروفًا وقتها. الأمر كله في يدي.. سوف يهوي الشبشب عليه فتنتهي حياته أو لا أفعل فينعم بها.. في 90% من الحالات كنت أهوي بالشبشب وكثيرًا ما كانت الأقدار تتحداني فينجو الصرصور بشكل ما.
لكن الآن لن ينجو أي من هذه الصراصير.
رجال الشرطة سوف يعرفون الحقيقة.. سوف يبحثون بين الجثث ويستدعون خبير المفرقعات ولسوف يعرفون من الذي فجر نفسه.. سوف يهرعون لداري ويفتشون كل شيء.. سامحيني يا أمي.. لن يضايقوك كثيرًا على كل حال.
رسوم فواز |
سوف يفتشون جهاز الكمبيوتر ولسوف يجدون ملفًا كاملًا عن المفرقعات.. ولسوف تخرج الصحف كلها تتساءل عن سبب انتشار العنف بين الشباب، وسوف يتكلم أكثر من خبير نفسي وخبير علم جريمة.
الحقيقة أنني أقدم للمحررين هدية عظيمة، فلسوف يكتبون ويكتبون ويسودون الصفحات لمدة شهر كامل. لو أنصفوا لدفعوا لأمي مكافأة.
لكنهم لن يفهموا السبب أبدًا.. أنا نفسي لو طلب مني أن أكتب مقالًا أشرح فيه القصة لما وجدت كلمات.. هذا هو الموقف العبثي الحق كما تكلم عنه (ألبير كامو) في (الغريب).. كانت لدى بطل القصة فرصة ممتازة ليقتل الأعرابي أو يتركه.. كان الحر خانقًا والذباب كثيرًا والعرق يحرق عينيه، لذا قتل الأعرابي.. فيما بعد قال لرجال الشرطة إنه قتل الأعرابي لأن الحر كان شديدًا.
لم يفهموا.. كلهم لا يفهمون.
عندما أفكر في هذه الأمور أشعر بالدم يتصاعد لرأسي.. إنه الصداع.. الصداع اللعين.. يجب أن أقضي عليه بأية طريقة.. يجب.
.......
يُتبع