قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Saturday, January 8, 2022

التآكل - 3


كانت لحظة مرعبة لنا معًا.. لقد رأيت ذلك الشبح المُلثَّم يقف في بئر السلم، ورأتني فصرخت.. شبح ملثم له صوت أنثوي؟ هذا غريب.

رسوم فواز

للحظات سادت كوميديا الموقف المكان.. بين ذعر وصراخ وأنا أكرر أنني سليم وعليها ألّا تقلق.. تدنو مني فأتراجع خوفًا؛ خشية أن تكون مصابة.. تصرخ مؤكدة أنها سليمة.. وهكذا...

في النهاية دخلتْ الشقة وراحت تلهث.. كانت في الثلاثين من عمرها، لها وجه جذاب وإن كان غيرَ جميل، ولها عينان ذكيتان حساستان.

كانت تقول:
ـ "حسبت أنني آخر الأحياء.. حمدًا لله! لقد قضيت عشرين يومًا مذعورة كالفأر.. نسيت الكلام منذ انقطع الإرسال.. لا أعرف ما يحدث بالخارج.. خارج القاهرة.. هل تجيد قيادة السيارات؟ لا؟ أنا لا أجيد.. هناك ألف سيارة ملقاة في الشوارع لكن لا أنا ولا أنت نستطيع القيادة.. لا وسائل مواصلات.. علينا أن نبقى هنا"

كانت تتكلم بلا توقف فدسست في يدها قطعة من البسكويت كي تأكل وتخرس قليلًا.

ملأت فمها بالبسكويت.. لم تكن جائعة طبعًا لأن الطعام في كل مكان، لكنها جائعة للصحبة البشرية.. الطعام الذي تأكله وأنت البشري الوحيد يكون طعمه كالسم.. رحت أحكي لها قصتي.. أحكي لها عن زوجتي.. عن القط.. عن أولادي.. كل شيء ما عدا اسمي.
 
لما انتهت من الطعام سألتها عن عملها واسمها فقالت وهي تجلس على الأرض:
ـ "(نرمين محمود).. طبيبة مختصة بعلم الميكروبات.. أعمل في مركز بحوث (.......).. وأنت؟"
ـ "(أسامة الشرقاوي).. معلم.. إذن أنتِ تعرفين بعض الشيء عن هذا الفيروس اللعين.. هل جاء من الفضاء فعلًا؟"

قالت وهي تنهض:
ـ "لا أعرف إلا أعراضه.. مهمتنا أن نبقى أحياء.. هذا هو الشيء الرئيس"

ثم وقفت في وسط الصالة الضيقة تنظر للأرض وقالت:
ـ "هو يفتك بالصراصير أيضًا"

نهضت مسرعًا وقد أصابني الذعر.. نظرت لأجد خمسة صراصير مقلوبة على ظهورها جوار جدار وقد أشعلت عود ثقاب ودنوت منها، فوجدت أنها متآكلة فعلًا.. لا شك في هذا.

قلت في رعب:
ـ "كانت حية.. كانت حية حتى وقت قريب جدًا.. إن هذا الكابوس يزحف بلا توقف.. لقد حسبت أنني سأنجو ما دامت الصراصير حية ترزق"

قالت وهي تدفن وجهها بين كفيها:
ـ "كانت هناك فئران في القبو الذي تواريت فيه، وكنت أشعر بذعر شديد.. لكن ظللت أتمنى أن تبقى حية حتى النهاية فلا أجد جثثها المتآكلة.. هذا ما حدث لحسن الحظ"

الموت الأحمر يدنو منا.. فقط لن نتوارى منه في قصر حجراته ملونة كما فعل أبطال (إدجار آلان بو).. نحن هنا في هذه الشقة المظلمة مذعورين خائفين.

كنت أفكر في قلق.. هناك وقائع كثيرة يكون فيها الشخص حاملًا للعدوى ولا يصاب بها.. هذا وارد جدًا.. لماذا هلكت الصراصير الآن فقط؟ بعد ما دخلت هي الشقة؟ شيء جديد قد طرأ وهو ظهور (نرمين) هذه.. هل أنا في خطر؟

رسوم فواز

بعد قليل قالت لي دون أن ترفع وجهها:
ـ "هل خطر ببالك أن مهمة إعادة الحياة تقع على عاتقنا؟ رجل وامرأة.. يبدو أننا سنتزوج لا محالة!"

نظرت لها في دهشة.. هذا آخر شيء فكرت فيه.. لكن من قال إننا البشريان الوحيدان الناجيان؟ قد نكون آخر بشريين في القاهرة لكن بالتأكيد يعج العالم بالبشر في الخارج.. لا شك أن هناك مئات المتوارين في أرجاء القاهرة مثلنا كذلك.. ما تفكر هي فيه أكثر درامية مما تتحمله الأمور.

قلت لها ضاحكًا:
ـ "لا أقصد أن أهينك.. لكن أعتقد أن الأمور ليست بهذا السوء بعد"

ثم سألتها لأغير مجرى الكلام:
ـ "هل لديكِ نظرية تفسر بقاءَك سليمة حتى اللحظة؟"
ـ "عندما اشتد الوباء تعاطيت وزوجي جرعات من عقار الأمانتادين وحقن الإنترفيرون على سبيل الوقاية لا العلاج.. خطر لي أننا لن نخسر شيئًا"
ـ "وهل نجح هذا الابتكار؟"
ـ "مات زوجي بالوباء بعد ساعات.. كان يهذي بلا توقف لأن الفيروس قد يسبب هلاوس وحالة من الجنون الوقتي قرب النهاية، بينما نجوت أنا.. لا أملك تفسيرًا أفضل من أن هذه التجربة الخرقاء أفلحت معي.. وماذا عنك؟"

لم أرد لأنني كنت أنظر إلى وجنتها.. هل أنا أهذي أم أن هناك رقعة عارية يبرز العظم منها؟