قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Saturday, January 15, 2022

التآكل - 4 - الأخيرة


قلت لها بصوت مبحوح:
ـ "أنتِ.. لست منيعة تمامًا"
ـ "عمَّ تتكلم بالضبط؟"

قلت وأنا أتراجع للخلف:
ـ "الوباء.. التآكل.. يبدو أن دورك قد حان!"

مدت يدها لتتحسس جبهتها، وهنا فوجِئتْ بأنها ترى سلاميات أصابعها العظمية.. شهقت ونهضت.. حقًا كان كل شيء يدور بسرعة جهنمية.. البخار الأخضر اللعين الناجم عن عمليات التحلل العضوية يتصاعد.

لكنها ظلت قادرة على الكلام.. ويبدو أن العلاج الذي جرّبته وزوجها لم يقدم لها أكثر من هذا.. قالت وهي تستند على الجدار:
ـ "لكن كيف؟ لقد مررت بكل شيء.. هلك كثيرون أمامي ولم يحدث لي شيء"

ثم لم تقدر على أن تقف على قدميها أكثر فسقطت على الأرض، ولكنها رفعت نحوي وجهها المُشوّه وقالت بصوت كالفحيح:
ـ "الآن فهمت.. فهمت.. الوباء هو أ.. أ.. ......."

رسوم فواز

ثم نفدت الحياة من جسدها.. لم أجرؤ على النظر إلى ما صارت إليه... لقد رأيت هذا المشهد مرارًا.. لا أتحمل أكثر.. لن أتحمل أكثر.

سقطتُ على الأرض والعرق يغمرني لكني كنت أتأرجح بين الوعي واللا وعي.. أرى بعين الخيال البقال العجوز يكلمني بعد صلاة الجمعة ويضحك.. أرى نفسي وسط المصلين.. أرى نفسي في مترو الأنفاق.. في الحافلة.. أرى نفسي جالسًا في مطعم.. أمزح مع زوجتي.

هناك من هلكوا بسرعة وهناك من تأخروا كثيرًا لأسباب غير مفهومة.. لكن النهاية واحدة.

أرى بعين الخيال نفسي راقدًا على ظهري في مكان مظلم من الصحراء.. أنظر للسماء -حيث تنتثر النجوم- عاجزًا عن الحركة.. أرى كائنين غريبين قريبين بالبشر لكن لا وجه لهما يجثمان فوق صدري.. أداة غريبة تغرس إبرة في ذراعي.. أعرف أن الشيء يسري في دمي..أعرف من أفكارهما أنني لن أموت.. لن أموت.
لكني سأكون الموت!

لماذا أنا في الصحراء؟ لا أذكر.. لكن هذا كان منذ خمسين يومًا. أعرف يقينًا أنه كان منذ خمسين يومًا.. لن أموت.. لن أموت.

نهضت من غيبوبتي فجلست على أرض الشقة في الظلام.. أنظر إلى الهيكل العظمي الذي سقط بقربي.. لقد كان كابوسًا مفزعًا لكنه لم يكن كابوسًا بالضبط.. ربما هو ذكرى نسيت كل شيء عنها وعادت.. لا أعرف.

ـ "الآن فهمت.. فهمت.. الوباء هو أ.. أ.. ......."
قالتها "نرمين" قبل أن تموت.. كانت قد اقتربت من الشفافية وعرفت كل شيء.. أرادت أن تقول: "الوباء هو أنت!"

لماذا هلك القط بمجرد أن داعبته قليلاً؟ لماذا هلكت الفتاة؟ الصراصير تتحمل أكثر من سواها لذا عاشت معي طويلاً لكنها ماتت في النهاية.. ولماذا لم أمرض أنا؟

حامل العدوى قد لا يصاب بها، ولهذا هو خطر داهم لأنه لا يبدو مريضًا ولا أحد يتجنبه. لقد ذهبت لكل مكان وتعاملت مع الجميع وأكلت في كل المطاعم.. لو أردت أن أنشر هذا الوباء الغريب فما كنت لأفعل أكثر من هذا..
هل هي تجربة ما؟ هل نلعب دور فئران المختبر في تجربة كونية لا نفهمها؟ هل هو سلاح بيولوجي ابتكره سكان عالم آخر وأرادوا معرفة تأثيره على سكان مدينة؟ لا أدري.. لكني أعرف شيئًا واحدًا.. أنا السبب في كل ما حدث من فظائع.

أصعد في الدرج ثلاثة طوابق إلى سطح البناية وأقف لاهثًا هناك على حافة السور.. أنظر إلى الشارع البعيد من تحتي حيث تناثرت الهياكل العظمية بكامل ثيابها، وتبعثرت السيارات.. آخذ شهيقًا عميقًا.

رسوم فواز

هناك طريقة مؤكدة للقضاء على وباء التآكل وأنا أعرفها.. يجب إبادة مصدر العدوى بأية طريقة كانت.. النار تبدو حلاً أكثر منطقية لكني لا أجرؤ على أن أفعل ذلك.

وداعًا.. أرجو أن يتأخروا في العثور على جثتي فترة كافية لتجف وتفنى العدوى.
أغمضت عيني ووثبت..
لم تعد هناك أرض تحت قدمي..
هنا سمعت في ذاكرتي صوت "نرمين" يقول:
ـ "الفيروس يسبب هلاوس وحالة من الجنون الوقتي قرب النهاية!"

ماذا لو كانت نظرية الوباء الحي هذه هذيانًا؟ ماذا لو كان كلامها صادقًا؟ ربما تسرعت أكثر من اللـ.......