قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Tuesday, June 3, 2014

الفن التاسع - 2


كان لابد للمرء أن يفتش في شبكة الإنترنت عن مصدر يروي ظمأه المتجدد إلى الكوميكس .. أو الفن التاسع .. أو الباند ديسينيه كما قلت. إن المواقع الغربية تعج بالكثير، لكنك لا تجد أي توثيق للإصدارات المعربة في هذا الصدد..

في هذا الوقت قابلت شابًَا يفيض بالحماسة ..اسمه (هاني الطرابيلي) ويعمل محاسبًا. لابد أنك لاحظت الاسم واستنتجت أنه ابن الكاتب الصحفي الكبير (عباس الطرابيلي). (الطرابيلي) لقب غريب وقد فتش الأب عن معناه كثيرًا بطريقته المولعة بالتدقيق في التراث وأصول الكلمات، حتى عرف أنها مهنة من يصنع أغطية (طرابيل) لسطوح المراكب، وهي مهنة دمياطية جدًا بالمناسبة. 

هاني الطرابيلي

كان هاني لا يتكلم إلا عن الكوميكس، وقد وجدت أنه يعيش تقريبًا في سور الأزبكية والسيدة زينب،  وينفق كل ما يملكه من مال لشراء المجلدات القديمة من تجار الكتب، الذين يحتفظون له بالكتب كأنهم يتعاملون مع (صنف) مطلوب في السوق. لم أزر منزله قط لكنهم يقولون إن منظر مكتبته ترتجف له انبهارًا أقسى القلوب !

كنت قد قرأت في طفولتي قصة مصورة جميلة للفنان اللباد نشرت في مجلة سمير ، وكانت عن إحدى قصص جول فيرن. كان تنفيذ القصة ثوريًا جدًا من حيث استخدام فنّي الكولاج والبوب بطريقة متقدمة جدًا بالنسبة لقصص أطفال. بعد ثلاثين عامًا لما قابلت الفنان اللباد –رحمه الله– حكيت له عن انبهاري بهذه القصة الفريدة. أثار دهشتي انه لا يذكر حرفًا منها ولا يذكر أنه رسمها.  طلبت من هاني الطرابيلي أن يجد لي هذه القصة لو استطاع .. تصور تعقيد المهمة: قصة للباد نشرت في مجلة سمير في عام من أواخر الستينيات.  برغم هذا أرسل لي هاني القصة!.. لقد عرفها وحدد صفحاتها وقام بمسحها بهذه السرعة. وعندما عرضت القصة على الفنان اللباد على شاشة الكمبيوتر في مرسمه،  رأيت التأثر في ملامحه وارتجفت شفته السفلى.. كأنني عرضت عليه جزءًا من كيانه نسيه تمامًا ..

وجه لي الصديق هاني الدعوة لدخول موقع (عرب كوميكس) www.arabcomics.net  وهو موقع لم يقم بتأسيسه لكنه عضو نشط مهم فيه.  هذا موقع تم إنشاؤه عام 2005، صممه وشارك فيه عدد من الهواة لا يجمع بينهم سوى عشق فن الكوميكس، ولا ينالون مليمًا عن هذه الهواية . في الواقع هم ينفقون عليها.

جهد نبيل شاق جدًا بذله هؤلاء الأعضاء في جمع  مجلات الكوميكس وتوثيقها، وهناك دراسات مضنية في كل ما يتعلق بهذا الفن الجميل.

الفريق الذي يعمل في الموقع هو خليط من جنسيات عربية مختلفة .. بينهم حب وتفاهم غير عاديين، فمنهم الأردنيون وكتيبة من المصريين والسوريين واللبنانيين والليبيين .. إلخ .. وقد كونوا أندية لهم في كل بلد عربي، بحيث أنه عندما يزور المصري المغرب  مثلاً يقابله أصدقاؤه من المنتدى هناك ..

هناك عدة تخصصات .. هناك من هو مختص بالكوميكس المعربة، ولديه إجابة عن أي سؤال في هذا الصدد. هناك مختصون بالكوميكس الفرنسية ، ومختصون بالهنتاي والمانجا اليابانية .. إلخ ..

هناك مجلات انقرضت فعلاً.. أنا كنت أملك الكثير من مجلات ميكي وسمير وسوبرمان وتان تان .. ثم اندثرت وتحولت لغبار في أفضل الحالات، أو أكل أحدهم المانجو والملوخية عليها لسبب لا أدريه.  ما يقوم به الموقع هو حفظ هذا التراث الضخم بشكل رقمي لا يزول ولا يبلى.  هناك تجارب فريدة سرعان ما نسيها الناس؛ مثل مجلات سوبرمان والوطواط وطرزان وبونانزا والبرق ولولو ومجلة بساط الريح التي كانت تصدر من بيروت.. هناك مجلة ميكي التي كانت تصدر عن دار الهلال وصدرت أولاً كملحق لمجلة سمير.  هذه المجلات عادت للحياة عبر عشاق الفن الذين يعملون بدأب ليلاً نهارًا لتوثيق ما لديهم.
لقد قام الموقع بتوثيق مجلات لن نراها أبدًَا. مثلاً هل تعرف مجلة كوميكس قديمة جدًا اسمها (المستقبل)؟.. هل تعرف الإصدارات النادرة من القصص المصورة التي أصدرها سيد المترجمين (عمر عبد العزيز أمين)؟. قصص مصورة تعتمد على الأبيض والأسود وطباعتها رديئة جدًا، لكنها كانت أول ما عرف العرب بالوطواط وسوبرمان. جيل أبي يعرف جيدًا مجلة السندباد ورسوم بيكار الجميلة التي كانت تزينها. من كان يستطيع الاحتفاظ بأعداد سلسلة سندباد من دون جهد هذا الموقع؟. هناك مجلات لم أسمع عنها قط، ودور نشر افتتحت لمدة اسابيع ثم أغلقت ..

هكذا يمكنك أن تجمع كل تلك الأعداد التي اصفرت أو أكلتها العث، أو تحولت لغبار ... سوف تبقى دائمًا بشكلها الرقمي لعدة أجيال.

قلنا إن معظم هذه المجلات اندثر وزال من الوجود .. لا توجد دار نشر تزعم حق ملكيتها، لهذا لا يوجد انتهاك للملكية الفكرية من أي نوع. الأمر يشبه من يجمع الأمثال الشعبية قبل أن تُنسى فلا توجد جهة تزعم أن الأمثال من حقها هي. هناك صديق لي من قرية مجاورة لدسوق يملك مخزونًا لا ينفد من الأمثال الشعبية التي لم تسمعها قط. أقوم بتدوين كل ما يقوله هذا الصديق، وأشعر أن مهمتي مقدسة.. الحفاظ على هذا التراث الثمين قبل أن يندثر. نفس الشيء يقوم به موقع عرب كوميكس على نطاق واسع.

 إن ما يقوم به هذا الموقع يتجاوز الهواية إلى عمل أرشيف عملاق يمكن أن تكلف به جامعة، وبالفعل أعتقد أن هذا العمل جدير بهيئة اليونسكو مثلاً...

ليس عملهم الأرشفة فحسب، بل هم كذلك يترجمون الكثير من القصص .. بمعدل قصة مترجمة تضاف يوميًا. هناك مترجمون يجيدون الإنجليزية والفرنسية ويمارسون عملهم بشغف ومجانًا.

من ضمن ما قام به الموقع إعادة تعريفنا بالفنان هنري ماثيوس، وهو مساعد  مدير الإعلام فى الجامعة اللبنانية الأمريكية، وتخصص في فنون الكوميكس. وقد أحزنه أنه لا يوجد توثيق كامل لإصدارات الكوميكس العربية لذا حاول أن يفعل ذلك. هذا اسم مهم جدًا، و هو رئيس التحرير لمجموعة من أقوى المجلات المصورة التي ظهرت في أواخر السبعينيات و انتهت كلها قبل منتصف الثمانينيات؛  ومنها ما وراء الكون......طرزان سيد الأدغال.....روائع الأدب العالمي.....أمتع القصص...وأخيراً غرندايزر الجبار و غرندايزر الأسطورة...و لا تنس الكثير من الأعداد الخاصة التي كان يعدها بنفسه لأبطال مثل كونان....هالك...سيد النجوم....الفتى الذري (كل هذه السلاسل كانت تصدر من دار بساط الريح)، وهو أول من قدم للقارئ العربي شخصية الرجل العنكبوت والرجال X وجرندايزر ..إلخ . قصة كفاح مبهرة وسط الحرب الأهلية اللبنانية والصعوبات الاقتصادية. له كذلك دور رئيس في توثيق تاريخ مجلة بساط الريح التي عمل فيها، وكتب عن تاريخ الكوميكس اللبنانية. استطاع هاني الطرابيلي أن يجد هذه الشخصية فائقة الأهمية، وكتب عنها، ثم  سافر إلى لبنان وشارك الرجل في إصدار موسوعة مهمة عن إصدارات الكوميكس اللبنانية. لم اكن لأعرف حرفًا عن هذا الرجل من دون موقع أراب كوميكس.

غلاف جرندايزر

بالإضافة لهذا يصدر الموقع مجلاته الخاصة ..  لقد توقفت مجلة تان تان عن الصدور منذ كنت أنا في المدرسة الثانوية، واليوم عادت للصدور بقصص جديدة تمامًا وبنفس تنسيق المجلة القديمة تقريبًا.

يقوم الموقع كذلك بعمل دراسات طويلة مرهقة ..

مثلاً هناك دراسة عن السرقات الفنية. سوف تكتشف أن بعض الفنانين الذين كنا ننبهر بأعمالهم بشدة إنما اقتبسوا أعمالهم حرفيًا –من حيث القصة وتكوين الكادرات– من مجلات غربية. هم فقط يعيدون رسم المشهد بريشتهم .  أذكر أنني رأيت ذات مرة في مجلة سمير قصة بهرتني فعلاً رسمًا وقصة لرسام مصري، ثم وجدتها بعد أعوام في قصة لـ (تومي بانكو) في مجلة تان تان .. فقط قام الرسام المصري برسم كل كادر بريشته من جديد واستخدام أسماء عربية.

هناك سرقات لا حصر لها، ولن نذكر المجلات المعاصرة هنا، لكن الموقع يكشف مثلاً عن الفنانة الفاتنة (بهيجة).. أرمنية اسمها الأصلي (جيجا توماسيان) ، وهي فنانة عرفناها في مجلة سمير، وبعد هذا قدمت لنا شخصية (ريدو) في مجلة بساط الريح. ارتحلت بعدها لتعمل في ستوديوهات يونيفرسال بالولايات المتحدة. كانت بهيجة (تقتبس) أعمالها مباشرة من الفنان البلجيكي العظيم أندريه فرانكلين صاحب شخصية الأستاذ متواضع وصديقه فيلكس. هذه حقيقة كشف عنها الموقع وعرض اللوحات الأصلية واللوحات المقلدة بما لا يدع مجالاً للشك.

من ضمن الدراسات المضنية دراسة عن المترجم العظيم عمر عبد العزيز أمين والقصص المصورة التي قدمها للقارئ العربي، وهي تشمل كل مجال تقريبًا وكل الشخصيات. هذا جانب لم نعرفه عن هذا الرجل المدهش.

سوف تجد تاريخ كل شخصية من الشخصيات المصورة والتفاصيل الغريبة المتعلقة بها. حتى تلك النافذة التي تطل على صدر (فتاة القوة) شخصية الكوميكس الجبارة .. سوف تجد تاريخها!

موقع أراب كوميكس موقع رائع صنعه الحب ويعيش بالحب، ويقوم بمهمة يمكن أن يقوم بها جهاز كامل من وزارة الثقافة. لكننا نتمنى أن يظل بعيدًا عن الدولة وأن تظل الدولة بعيدة عنه حتى لا ينهار ويفشل.

إنها مهمة نبيلة جدًا أن تحفظ كل هذا التراث للأجيال القادمة. لا تنس أنه لولا جهود جورج سادييل والسينماتيك الفرنسي لاندثر معظم تراث السينما المصرية .. لقد حاول محمد كريم أن يجد بعض نسخ فيلمه القديم (لست ملاكًا) فلم يجد .. ووجد بعض العجين الباقي منه في قبو قصر يوسف وهبي،  فاستنقذ أغنية (عمري ما حانسى يوم الاتنين) فقط. ما يقوم به موقع عرب كوميكس هو نوع من السينماتيك المخصص للكوميكس أو الكوميتيك لو صح التعبير!

أدعوك لزيارة هذا الموقع المبهر. لا أخشى شبهة الدعاية فأنا لا أتقاضى منهم مليمًا بفرض أنهم يملكونه أصلاً، لكن المرء لا يخشى أن يتهم بالترويج للجمال والفن والنبل