قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Saturday, April 25, 2015

451 بشرطة


تضحكنى دائما تلك المواقف التى يحاول فيها أحدهم نفاق الحاكم، لكن هذا يؤدى لإحراج الأخير من ثم ينقلب على المنافق. هناك قصة وقعت قبل الثورة عن تلك الطالبة التى كتبت موضوع إنشاء تطلب فيه من مبارك أن يتقى الله، وكان أن تحمس موجّه الوزارة للنفاق ومجاملة مبارك، فعاقب الطالبة عقابا شديدا.. لم تمر الحادثة على خير وانقلبت وسائل الإعلام والصحف على ذلك الموجّه، ووجدوها فرصة لإظهار أن نظام مبارك يسمح بالرأى الآخر، برغم ان الموجّه ما كان ليفعل ما فعل لو كان يعرف أن هذا صحيح. مؤخرا رأينا تلك المذيعة التى بالغت فى مجاملة النظام، فاتهمت شعبا عربيا بأكمله بأنه يمارس البغاء، وكانت هذه لقمة لم يستطع أحد ابتلاعها وعوقبت على سوء تقديرها. هل تذكر قصة شحنة التمور الباهظة التى وصلت لمبارك هدية من بلد خليجى؟ وهى قصة ملفقة تظهر مبارك آية فى النزاهة.. أنكرت الرئاسة القصة تماما وقتها، وبالتالى فالصحفى الذى ذكر الخبر كان يكذب ليجامل الرئيس.


مؤخرا رأينا مبادرة المسؤولين التربويين فى محافظة الجيزة، أولئك الذين قاموا بعمل حفل حرق لبعض الكتب التى اعتبروها مضرة للعقول، وكانوا يلوحون بالأعلام فى حماسة وطنية، مع أغان وطنية مثل (يا أغلى اسم فى الوجود)، مما أضفى على المشهد طابع جنون محببا للنفس.

هذا المشهد العجيب أعاد لأذهان الجميع مشاهد المغول وهم يحرقون الكتب، كما أعاد للأذهان رواية راى برادبورى الرائعة 451 فهرنهايت، حيث كان رجال الإطفاء يجمعون الكتب من البيوت ويحرقونها فى فرن خاص فلا يسمح فى هذا المجتمع سوى بمشاهدة التلفزيون. سوف تتذكر كذلك حفلات حرق الكتب وهتاف الناس المسعور فى ألمانيا النازية قبل الحرب بأعوام، وقبل أن يؤدى هذا الجنون لتدمير ألمانيا. حرق الكتب يثير ذكريات مفزعة، بينما تمزيق الكتب أو فرمها ليس له هذا التأثير الصادم.

الحكومة تحرق الكتب... وهكذا يتصرف الجانب الآخر أيضا.. فى أيام الكلية رأيت مرارا كيف يقوم أعضاء الجماعة الإسلامية –البذرة القديمة للإخوان– بحرق الكتب التى يرون فيها مخالفة لرأيهم. ذات مرة أرسل لى قارئ ريفى يصف حفلات حرق الكتب الأسبوعية فى قريته وكلها روايات ودواوين شعر طبعا.. ثم رأينا كيف تقوم داعش بهدم تماثيل الحضارة الأشورية وكيف تحرق رجلا حيا. نفس الشىء يتكرر على الجانب الذى يزعم أنه ضد التطرف.. لكنه يفعل ذلك وهو يغنى من أجل مصر. تطرف وتطرف مضاد.. حلقة لا نهاية لها.

اللجنة قالت -وهى تلوح بالأعلام فى حب مصر- إن هذه كتب متطرفة ومؤلفوها إخوان وفى قطر.. السؤال: ألا يعلم هؤلاء من هو على عبد الرازق؟ ومن هو جمال الدين الأفغانى؟.. لقد خاض أمثال هذين معارك شرسة من أجل التجديد فى الفكر الدينى، وكان المتوقع أن تحرق داعش كتبهما وليس من يدعى حصار التطرف. هناك كتاب لعبد الحليم محمود الذى يمثل اعتدال الأزهر ، وكتاب لزغلول النجار، وكتاب مهم لكرستوفر هارولد عن بونابرت، ولم أعرف أن سمير رجب متطرف إلا من هذه اللجنة.. واضح أن السادة لم يقرءوا كتابا من قبل.

«قالت السيدة وكيل الوزارة التى ترأست اللجنة إن التعليمات الأمنية تقضى بإعدام الكتب الخارجة عن المألوف وليس فرمها، ومن هنا كان اللجوء لحرق الكتب المضبوطة بعد التأكد من مخالفة مضمونها لمبادئ الإسلام المعتدل. وقالت إن الهدف الأساسى من حرق الكتب داخل المدرسة هو إثبات ضبطها ولتكون عبرة لحظر أى أفكار متطرفة، مشيرة إلى أن أى مطبوعات مذكور فيها اسم الله يفضل أن تحرق ولا تفرم ولا تلقى فى المهملات حفاظا على اسم الله جل جلاله». كلما ظهرت فى وسيلة إعلام لوحت بكتاب عن الجن والعفاريت وجدته فى المكتبة لتبرر موقفها، كأنها لم تحرق سوى كتب العفاريت. طبعا يدرك أى طفل أنه لو أظهرت الحكومة أدنى رضا عن هذه المؤلفات لأقام هؤلاء السادة حفل تكريم لها، ولوضعوها فوق رءوسهم أمام الكاميرات، ولنظموا مسابقات لحفظ فصول كاملة منها، والفائز يحصل على مجموعة مؤلفات أبى الأعلى المودودى كاملة. أذكر عندما كنت طالبا أن ضابط أمن دولة قال لى بالحرف الواحد: «لو صارت الحكومة شيوعية غدا، فلسوف ألوح بعلم أحمر، وأحرق المصاحف فى الشوارع!».

من الجدير بالتفكير أن أغلب عمليات النفاق غير العقلانى هذه تأتى من وزارة التربية والتعليم بالذات، ويبدو أن التفكير بطريقة (كلمة السيد ناظر المدرسة) و(من أجل العلياء والسؤدد) و(السيد وكيل الوزارة نبراس العلم) لن تفارق هؤلاء القوم أبدا. من نكلوا بالطالبة على موضوع الإنشاء تربويون، ومنذ عام أوقف مدير إحدى دور الأيتام الفتيات الصغيرات اللاتى لم يتجاوزن التاسعة.. أوقفهن بثياب شفافة شبه عارية فى زمهرير ليل الشتاء ليهتفن لمصر، وعندما سأله مذيع عن هذا صاح فى هستيريا وطنية: «أنا روحى فداء لمصر». كان رد المذيع البديهى هو: «من حقك هذا.. لكن ليس من حقك أن تعرض البنات اليتيمات لالتهاب رئوى لأنك تحب مصر ». بالطبع كان بوسعه أن يقف بالفانلة الداخلية والكيلوت ويهتف من أجل مصر لو أراد.

الإرهابى الأحمق الذى يزرع قنبلة لن يجنى شيئا سوى الدمار والدم، وهؤلاء الحكوميون أكثر من الحكومة لن يقضوا على أى فكر، لأن الفكر لا يحارب إلا بالفكر، وحرق أو حجب أى كتاب فى عصر الإنترنت يمنحه الخلود والرواج.

فى رواية 451 فهرنهايت كان الناس يهربون إلى جزيرة منعزلة، يعيش فيها أناس يحفظ كل منهم كتابا عن ظهر قلب.. رحلة الحاج.. أوراق بكويك.. الإنجيل. إلخ. فلا يموت قبل أن يلقنه لصبى مراهق. أقترح أن يتم عرض هذا الفيلم على كل السادة التربويين ليتذكروا هذا الدرس.

هؤلاء السادة لم يقوموا بمبادرة أو يتصرفوا من تلقاء أنفسهم، ولم يفعلوا سوى أنهم أحسنوا فهم الخطاب الإعلامى المجنون الهستيرى المكارثى الفاشى، وهو مناخ يطالب بالدم والعنف والإقصاء. لم يفعلوا سوى أنهم تصرفوا كما فهموا، وكان من سوء حظهم أنهم بهذا قدموا للحكومة هدية لا تقدر بثمن، كما قدم لها قتلة الكلب من قبل هدية أخرى. ستقول الحكومة بصوت عال أمام الغرب: نحن لا نسمح بحرق الكتب كما لا نسمح بقتل الكلاب. هذه المرة سقط المنافقون فى شر أعمالهم، ووجد الإعلام تسلية تكفيه لعدة أسابيع