قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Thursday, February 15, 2007

بيت في الدنيا وبيت في الحنين

الدستور - 15 فبراير 2007

ملحمة كتبها عبقري ليبي يرفض أن يكرمه العرب


تكوين

منذ عرفت الأديب الليبي العظيم (إبراهيم الكوني) - مـتأخرًا للأسف - وقعت في غرامه، لكن أية محاولة لفهمه نقديًا تصطدم بسياج كثيف حوله بناه النقاد المغاربة ذوو الثقافة الفرانكفونية شديدو التحذلق إياهم، الذين تنحصر مهمتهم في الحياة في إشعارك أن (العملية كهنوت مش لعب عيال).. اقرأ النقد العميق التالي الذي كتبه ناقد مغربي عن أعمال الكوني وقل لي بصراحة: لو لم يكن هذا هو التحذلق فما التحذلق إذن؟

"أماطت الممارسةُ المنهجية القولية النقدية اللثامَ عن بعض ثغرات الطرح البنيوي الألسُني الذي أنجزه العالم السويسري دو سوسُّور. فما هي هذه الثغرات؟ كيف استطاعت الممارسة القولية (التلفظية) الألسُنية سدَّ هذه النقائص وإضافة الجديد، دون إحداث قطيعة منهجية داخل الطرح الألسُني البنيوي؟"

يا خبر اسود ومنيل! أقسم بالله أن هذا مكتوب حرفيًا وليس من تأليفي.. وبصرف النظر عن هذا الكلام (الألسني البنيوي) الكبير، فالكوني أديب مهم فعلاً وله عالم شديد الثراء والتفرد، وكوننا نجهله تقريبًا في مصر يعود لعيب فينا.. إن عالم الكوني هو باختصار عالم الصحراء القاسي البخيل، شديد الثراء من ناحية القيم المعنوية.

ولد الكوني عام 1948 بالحمادة الحمراء في الصحراء الكبرى في الجنوب الليبي (فزان) وأكمل دراسة الماجستير في العلوم الأدبية بموسكو عام 1977. حيث كان يعمل مراسلاً لوكالة الأنباء الليبية1987. كما عمل مستشاراً إعلامياً بالمكتب الشعبي الليبي بسويسرا عام 1992، وقد جاء القاهرة عام 2003 حيث حضر مهرجان الرواية العربية. وقد كتب عن الصحراء كثيرًا جدًا.. إنها مملكته التي لا نعرف عنها إلا أقل القليل، ولا يقدر أحد على مزاحمته فيها.. إلا أن أشهر أعماله هي (الصلاة خارج نطاق الأوقات الخمسة -1974) و(شجرة الرتم – 1986) و (نزيف الحجر – 1995) و( التبر – 1990) و(المجوس – 1991).

على أن للكوني تصريحات مستفزة أحيانًا، فهو يتلقى تكريمًا في سويسرا فيفتح الله عليه بالكلمات التالية: "إن مثقفي العالم العربي لا يقرءون ولا يرون الحقيقة، وتحكمهم الأهواء والعلاقات الشخصية، وهم لا يرون النص ولكن شخص الكاتب وعلاقتهم به ووضعه السياسي ونفوذه في أوساط معينة"، ثم يقول الكوني في ذات الكلمة الرقيقة إن الجوائز والتكريم العربي إهانة له ما دامت هذه منطلقاته ولهذا السبب «أغيب دائما عن الساحة العربية». وقال إن المناخ الثقافي العربي يعاني أزمة ضمير والمثقفون يحقدون على أي مبدع حقيقي. بهذه الكلمة قدم للغربيين كل المثقفين العرب مبتدئًا بـ (صنع الله إبراهيم) و(إدوار خراط) وانت نازل.

الرواية التي نتكلم عنها هنا هي رواية (بيت في الدنيا وبيت في الحنين).. كتبها بين سويسرا وإسبانيا وليبيا ونشرت عام 2000.. ويحلو للنقاد الألمان أن يقارنوها بملحمة (فاوست) لجوته، كما يحلو لهم أن يقارنوا بين رواية (المجوس) و(الإلياذة)، حيث بحث الإنسان عن الحلم والحقيقة مرتبط بالإخفاق.. لكن الكوني لن يذكرنا بفاوست بل سيذكرنا بأعمال جابرييل ماركيز في واقعيته الأسطورية، حيث الأسطورة تعيش جنبًا إلى جنب الواقع.. الأسطورة والدين والجنس والصراع.

من جديد يعود الكوني في هذه الرواية إلى مفاتيحه الدائمة: الصحراء هي الطهر الذي يلوثه التبر والأنثى.. هي الطوارق والساحر والطبيب والطقوس الغامضة.. كتبت الرواية في 69 فصلاً تحمل عناوين مثل (القسم – اللعنة – الناي – دنيا الظلمات – الثأر – القصاص).. إلخ.. وكل فصل وحدة متكاملة يمكن أن تنشر وحدها كقصة قصيرة جيدة. وتدور الملحمة حول البطل الذي أقسم على أن يبني لنفسه بيتًا لا مثيل له في الصحراء. ثم مسترشدًا بحكيم من حكماء هذه القصص، ييدأ رحلة البحث الأسطورية لتحقيق هذا القسم.. هذه الرحلة هي خليط فريد من الرؤى الميثولوجية ، والخرافات الشعبية المخزونة في العقل البدوي الصحراوي، مع الأسلوب الشعري الساحر الذي يشعرك بأن هذه ليست كلمات معاصرة بل ملحمة وجدوها على جدران كهوف (تسيلي).

على أن الحكيم يقتاد بطلنا في نهاية رحلة البحث الأسطورية إلى جبل وعر يرتقيه معه.. لكن البطل يدرك أن قواه تتلاشى وأنه يسعل دمًا.. في النهاية يرى أمامه ضريحًا حجريًا ونقوشًا يخبره الحكيم أنها رحلة الإنسان من المهد إلى اللحد.. يتساءل البطل لماذا لا يرى زهرة رتم واحدة في هذا السبيل، فيقول الحكيم: وهل اعترضتك أنت زهرة رتم واحدة؟ الحقيقة أن بيت الصحراء المذهل الذي ظل البطل يحلم به منذ البداية هو هذا الضريح.. "ألا ترى أيها الشقي أن الثوب قد باد والرحلة انتهت؟ إن الضريح غاية المهاجر لأنه يعرف أنه لن يسكن.. إن المغلول بلعنة الترحال لن يعود إلى صوابه إلا بالترياق الذي ندعوه ضريحًا. فاسترح يا مهاجر الزمان واركن أخيرًا إلى المكان!".

إن الموت وعد نتلقاه منذ ولادتنا.. ونحن لا نولد لنحيا لكن نولد لنموت.. بينما الضريح يضع نهاية للعبة.. نعم لعبة.. فالأمر كله لم يكن إلا نوعًا من اللهو.. يحاول البطل الاعتراض قائلاً إنه لم يعش بعد.. كان ينتظر بناء البيت كي يبدأ حياته، لكن الحكيم يتصرف ككل حكماء هذه القصص.. يصمت ويغادر البطل وحده في الضريح.. ويسود الظلام ونفهم أن البطل مات وحده.. لقد صار الضريح مزارًا ثم صار معبدًا له كهنة وزوار يزدادون يومًا بعد يوم، وتنتهي القصة بأن يطلق على الواحة كلها اسم (واحة العجب).

قصة البطل الذي يحلم ببناء بيت لا مثيل له في الصحراء، والذي تأتيه أفواج من البشر على مر التاريخ.. ألا يذكرنا هذا بشيء؟ في الحقيقة قد يكون هذا ليًا لعنق النص أكثر مما يحتمله الأمر، والرواية في النهاية عمل ملحمي أقرب للشعر يكشف لنا عن جانب بسيط من إبداعات هذا الليبي العبقري. فقط أرجو أن يترفق قليلًا في تصريحاته القادمة عن المثقفين العرب الذين ما زالوا – برغم كل شيء – من أفضل عناصر هذه الأمة المنكوبة.