الدستور - 9 يونيو 2009
(لا مستحيل) كان هو التعليق على تلك الصورة التي رأيتها لشاب أسمر يجلس أمام أحد الأكواخ الكينية، ويدخن سيجارة جوار عجوز رثّ الثياب يعبث بأصابع قدميه. هذا الشاب هو (أوباما) في (بلدهم) قبل أن يحكم أقوى وأكبر وأغنى دولة في العالم. بالفعل هي صورة تدير الرأس؛ وتقول بوضوح إنك يمكن في أمريكا أن تبلغ قمة العالم مقابل أن تملك طموحًا وتسعي جاهدًا لتحقيقه.. فقط.
قد تختلف حول أوباما.. هناك معسكر الذين يرون أنه ليس في وسعه شيء؛ لأنه ترس ضمن آلة عملاقة موجودة منذ عشرات السنين، والتروس العملاقة التي تديرها فعلًا هي الشركات الكبرى ومصالح البيزنس واستراتيجية عليا مرسومة منذ زمن. أميل لهذا الرأي، وأرى أن نموذج كنيدي أمثولة أمام عيون الأمريكان لكل من يتمادى أو يحاول الاستقلال أكثر من اللازم. دعك من أن أوباما أسود وهذا يضيف خطرًا مضاعفًا عليه.. لا تنس أن خطر الاغتيال كان ماثلًا أمام عيني (كولين باول) فعلًا، مما جعله يحجم عن ترشيح نفسه للرئاسة بسبب ضغوط أسرته عليه، وهكذا لم تجد مجموعة الجمهوريين الظامئة للحكم سوى بوش الابن. لكني كذلك لا أطالب أوباما بأن يبكي مطالبًا بعودة الحق الفلسطيني لأصحابه، أو أن يطالب بعودة دولة الخلافة ولواء الإسكندرونة كما أتصور أن الذين يهاجمونه بلا توقف يريدون منه. أذكر عندما قدّم كوستاجافراس فيلمه الجميل (هانا - ك) الذي يحكي عن معاناة شاب هُدم بيته في فلسطين لتتحول قريته كلها إلى مستعمرة إسرائيلية.. لقد عرض الفيلم في القاهرة في وجود مخرجه.. طبعًا كوستاجافراس مخرج يوناني يوجه كلامه للعالم وليس للعرب، لهذا كانت رؤيته محايدة نوعًا مما أغضب عليه حشدًا من المثقفين في مصر أوشكوا علي التهامه في المؤتمر الصحفي.. كانوا يريدون منه أن يقدم فيلمًا يشتم إسرائيل ويؤيد العرب بوضوح تام! وكان سؤال المخرج العظيم البسيط هو: «إذن لماذا لا تصنعون أنتم هذا الفيلم الذي تريدونه؟».
قد نختلف كثيرًا حول أوباما كما قلت، لكني لا أنكر ارتياحي لرؤية شخص آخر غير ذلك البوش الذي كان علينا أن نقنع أنفسنا بأنه كائن حي لمدة فترتي رئاسة كاملتين. هذا رجل مكافح مثقف يحاضر في الجامعة ويكتب كتبًا، وليست كل مواهبه في الحياة توقيع عقود شركات البترول والاعتقاد بأن الرب يكلمه.
لو تخيلنا أن أوباما كان مصريًا وأنه كان يجب أن يخوض رحلة الكفاح هذه هنا، لوجدنا أن الأمر أقرب إلي المستحيلات.. إن المستحيلات في مصر تتجاوز رقم أربعة بمراحل.. مثلاً خذ عندك:
- كان سيواجه مشاكل لا حصر لها بسبب جنسية أبيه، وكانت أمه ستدوخ دوخة الأرامل بين كل المكاتب الحكومية، وتظهر في إحدى حلقات مني الشاذلي لتبكي بحرارة (أعرف أن أمه أمريكية لكن النسور الإدارية عندنا كانت ستجد مشكلة ما).
- كان عليه أن يجد مكانًا في مدرسة بعد عودته من هاواي.. لقد ذهب للولايات المتحدة وهو في الصف الخامس، وكانت أمه ستبحث عن كارت توصية من المحافظ أو أحد أقطاب الحكم المحلي.. طبعًا من حسن الطالع أن يجد مدرسة محترمة تجعل أبناءها رؤساء جمهورية.
- كان عليه أن يتحمل سخرية الناس من لون بشرته، وأسرته التي هي خليط من عدة أجناس بين أب اسود كالفحم وأم بيضاء كاللبن. لا تنس أن معظم المصريين عنصريون فعلًا، ويسخرون من ذوي البشرة السوداء برغم أنهم لا يكفون عن قول العكس. لاحظ السخرية من سود البشرة في الأفلام العربية منذ عهد البواب النوبي حتي عهد هنيدي.
- كان عليه أن يجد مكانًا في مدرجات كلية الحقوق وسط الـ 365348787 طالبًا هناك، وأن يتعلم شيئًا.. أي شيء.. وأن يجد لنفسه مكانًا في الجامعة بعد التخرج.. وألا ينتحر لو اكتشف أنه الأول على الدفعة لكنه لن يعين في سلك التدريس؛ لأن أباه أسود. هذا لم يحدث لأوباما طبعًا في جامعة كولومبيا بنيويورك أو مدرسة القانون بهارفارد كما تقول سيرة حياته.
- كان عليه أن يفلت من الاعتقال إذا مارس السياسة في الجامعة، وألا يشطب من اتحادات الطلاب، وألا يستدعي رجال أمن الدولة أباه ليقولوا له: انت رجل طيب لكن «ابنك ابن كلب حقيقي».. يجب أن تنصحه يا عم الحاج.. في المرة القادمة لن نحذره. وكان أوباما سيجد صعوبة بالغة في استدعاء أبيه من (نيانجوما كوجيلو) في كينيا.
- هذا يذكرنا بأنه كان يجب أن يتفادى الاحتكاك مع جاره في الشقة التي تعلوه؛ لأنه رجل طويل اللسان فظّ، ويبصق علي الغسيل في الشرفة، وعندما يحتك به يتضح أن أخاه رئيس مباحث قسم كذا.. هكذا يجد نفسه في القسم يتلقي الصفعات، ويتهم بإحراز الحشيش وتسهيل الدعارة.. حتي لو قال لهم إنه الرئيس القادم للولايات المتحدة فلن يصدقوه.. حتهرج يا روح أمك؟!
- كان عليه أن يجد شقة ليتزوج فيها، ويخوض الرحلة المعقدة الأسطورية الشبيهة بالأوديسة من أجل العثور على ثقب إبرة، وكان عليه أن يجد عملًا بلا وساطة.
- كان عليه أن يمر بسلام من منافسته لـ (هيلاري كلينتون)، ولا يجد نفسه متهمًا بقضية مخدرات أو آداب، أو يجد فتاة قتيلة في شقته. أو يقال له: ما تلعبش مع الناس دي.. دول ناس كبار قوي.. فاهم يا شاطر؟!
- كان عليه أن يرشح نفسه ويتحمل ما سوف يحدث.. ما بين تمزيق الصحف الحكومية لسمعته، أو ظهور قضية توقيعات مزورة فجأة، أو قيام هذا البلطجي أو ذاك بضربه وسكب ماء نار في وجهه.. عليه أن ينجو من هذا كله وهذا مستحيل.
- كان عليه ألا يركب عبَّارة ليغرق في البحر الأحمر، وبالطبع لا ينقلب به ميكروباص مجنون أثناء عودته ليلاً من هارفارد، دعك من اجتياز الشوارع المظلمة عائدًا لبيته حيث ينتظره أحد خبراء (التثبيت) بالسنجة.. من السهل أن تنتهي أحلامه على منضدة التشريح بسهولة تامة!
- كان عليه أن يضمن ألا تنهار به البناية التي يقيم فيها لأن المقاول حرامي، أو لأن المنطقة كلها عشوائية لا تصلح للاستعمال الآدمي مثل الدويقة!
- وفي النهاية كان عليه أن يحتفظ بصحته فلا يقتله فيروس التهاب الكبد سي، أو يكتشف سرطانًا في كبده.. سن الثامنة والأربعين مناسبة جدًا للفشل الكلوي، لهذا كان عليه أن يظل حيًا برغم هذا كله.
نعم.. (أوباما) رجل مكافح وله كل احترام وتقدير، لكن نجاحه لا يخلو من قدر هائل من الحظ.. ولو ولد في بلد من بلدان العالم الثالث لكان أقصى طموح له أن يفتتح مكتب محاماة في أية قرية.