منذ أعوام خطرت لأحد المعدين في القناة السادسة فكرة تقديم برنامج اسمه (رمضان في رمضان)، وهي فكرة عجيبة تقوم علي حلقات تستضيف كل واحدة منها رجلاً اسمه (رمضان) ليتكلم عن تجربته مع الشهر الكريم. أذكر هذا جيدًا لأن (رمضان فلوطة) ميكانيكي الحي كان ضيف الحلقة الأولي. وبصرف النظر عن البرنامج والحكم عليه، فإنني أجد الفكرة لا بأس بها.. وهذا يذكرني بأن أقرب الشهور إلي التجسد في صورة بشرية هو رمضان.
عم (رمضان) العجوز الطيب الكريم ذو اللحية الشائبة والوجه الذي ملأته السنون بالتجاعيد. يمشي في الشوارع ليلاً وقد حمل فانوسًا ملونًا جميلاً وملأ جيبيه بالمكسرات والحلوي ينفع بها الأولاد الطيبين. الفانوس الجميل المصنوع من الصفيح، والذي يبعث رائحة الشمع الذائب الشجية، والذي ربما صنعه أسطي (رمضان) آخر في حارة من حواري تل الحدادين، وهي تلك المنطقة الشعبية التي تفوح بالتاريخ
والتي ارتوت أرضها بعرق الصنايعية منذ عهد الفاطميين. الإثرية وسوق الفسيخ وتل الحدادين وحلقة القطن ودرب الأتر وسيدي مضيهة.. يجب أن تكون طنطاويًا جدًا لتعرف معني هذه الأسماء
عم رمضان العجوز الطيب يمشي في الشوارع.. يستوثق من أن الزينة معلقة عند باب كل حارة، وأن المسحراتي يقوم بعمله ولم ينم، وأن بائع الفول باع بضاعته كلها.. يتأكد من أن الكنافة تنضج فوق الفرن الأسطواني الغريب ليتحول العجين بمعجزة ما إلي خيوط من عجين شهي المذاق. عم رمضان لا يصغي إلا لصوت النقشبندي الشجي: «يقول إمتي.. يا رب إمتي...»، ويسمع القرآن بصوت الشيخ رفعت القادم من عالم أسطوري مليء بالشجن.. صوت قادم من القلب مباشرة ولا يمر بحبال صوتية ولا حنجرة
عم رمضان العجوز يمشي في تؤدة.. قبل الغروب يتجه حاملاً شفشق قمر الدين إلي المكان الغامض الذي يربض فيه مدفع الإفطار، فيشرف علي إطلاقه بنفسه لترتج المدينة كلها بالصوت (بوم) ثم يصب كوبًا باردًا منعشًا للعسكري
عم رمضان لا يفطر.. إنه يمشي في الشوارع الخالية يتأكد من أن جميع النوافذ مضاءة، وأن الأسر كلها ملتفة حول الطعام، وأن صوت النقشبندي ما زال يتصاعد من مكان ما... ثم يراقب في رضا أول من ينزل من بيته قاصدًا المسجد
أغمضت عيني بضعة أعوام، وسافرت إلي بلد عربي شقيق لأعمل هناك. التجنيد الإجباري خارج الوطن الذي يجب أن يمر به كل شاب مصري لم يرث ولم يتزوج مليونيرة ولم يسرق
لم تكن أيامًا سيئة، ولن أقول الكلام الممل المعتاد عن الكفيل و.. و.. بل أعترف بأنني عرفت مجموعة راقية جدًا من أهل ذلك البلد وأحببتهم، لكن عندما جاء رمضان لم يستجد شيء.. رمضان يمر كأي شهر آخر هناك، وبالتأكيد لا يتجسد في صورة ذلك العجوز الطيب الذي عشقته. فقط الطعام.. الكثير من الطعام.. المزيد من الطعام.. أطنان من الطعام.. وعرفت من المستوصف الذي أعمل فيه أن العمل الحقيقي يبدأ في منتصف الليل عندما تصل حالات الإسهال والتلبك المعوي وسوء الهضم.. تمر ساعة أو ساعتان ثم تبدأ كل المطاعم توصيل الكبسة واللحم الضأن والمظبي للمنازل لزوم السحور. حتي صوت التواشيح لا تسمعه، لدرجة أنني كنت أردد: مملكتي مقابل سماع ثانية من التواشيح
كنت أقول لنفسي: سأعود يومًا، ولسوف يكون عم رمضان العجوز هناك بانتظاري حاملاً الفانوس الحبيب.
عندما عدت لمصر كانت أمور كثيرة قد تغيرت.. بشكل ما بدا لي أننا نقترب أكثر من صورة رمضان في ذلك البلد العربي. ما زالت هناك فوانيس لكنها من البلاستيك القبيح، وعليها علامة (صنع في الصين).. وتبدو كالمفتش (كرومبو) الذي يغني (بوس الواوا).. ما هذا العك؟! الصينيون تجار بارعون فعلاًَ يمكنهم بيع أجهزة تكييف في القطب الشمالي، أو أجهزة تدفئة في خط الاستواء، وقد أتحفونا كذلك بتلك المتفجرات الخطيرة التي يفجرها الصبية في عينك، ويلقونها داخل السيارات المسرعة، ويبيعها كل كشك سجائر متظاهرًا بأنه لا يفعل ذلك.. طريقة صاخبة مزعجة للاحتفال برمضان لم نعرفها من قبل. قرأت في كتاب (الفيل والتنين) أن لدي الصينيين دمي تشبه «السيد المسيح» تنطق قائلة: «احمل صليبك واتبعني»!.. لا أشك في أن لديهم دمي يهودية وبوذية وهندوسية
لا بأس.. لكن هناك من يؤكد أن الفوانيس عادة فاطمية.. يعني شيعية.. ومن الأفضل التخلي عنها تمامًا. نفس الشيء يقال عن مدفع رمضان والكنافة والقطائف وربما المسحراتي
والسؤال هنا هو: هل أضرت هذه العادات بالدين؟... هل جعلت الناس أكثر شرًا وتوحشًا وشهوانية؟... ما أعرفه عن هذه اللمسات البسيطة أنها ربطت رمضان بالفرحة في نفس كل طفل. لا يوجد طفل مصري لا يشعر برجفة طرب ولهفة عندما يسمع كلمة رمضان.. هذه اللمسات الصغيرة مع التجمع الأسري ولذة أن يشعر بأنه صار كبيرًا يصوم كالآخرين. لو كانت هناك جريمة هنا فأنا عاجز عن معرفتها
وجدت كذلك ولعًا شديدًا لدي الناس بالبحث عن شيء جديد يتم تحريمه. لا تقل (رمضان كريم) لأن هذا شرك والعياذ بالله.. الكريم من أسماء الله الحسني فلا تستعملها مع اسم الشهر. لا تقل (أنا فاطر) لأن الله فاطر السموات والأرض، وهم يعرفون أنك تستعملها بمعني مختلف تمامًا.. يقولون هذا ولا يتساءلون عن الأسوأ: إن تكون فاطرًا فعلاً أم أن تقول أنا فاطر؟. نموذج آخر للتمسك بحروف الكلام دون معناه
قلت في مقال سابق إنه حتي في عيد الفطر، تصحو منتعشًا وتتوضأ منتظرًا ذلك الصوت الرخيم ينشد من المسجد القريب: «صدق وعده.. ونصر عبده.. وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده.. لا إله الا الله ولا نعبد الا إياه ». لكنك تكتشف عندما تبلغ المسجد أن الميكروفون متروك لطفل يصرخ فيه بصوت نشاز ولا يمكن إيقافه أبدًا، وأنهم حذفوا هذا المقطع من الإنشاد واكتفوا بترديد: «الله أكبر.. الله أكبر. لا إله إلا الله» مرارًا لا حصر لها.. تسأل عن السبب فيقولون لك إن باقي الإنشاد ليس شرعيًا!» طيب هل كان هناك شيء خطأ أو يناقض روح الإسلام في المقطع المحذوف؟.. هل هي هواية تحريم شيء جديد كل يوم علي سبيل التميز؟
كل شيء خطأ.. والدائرة تضيق من حولك، ولذة لا شك فيها لدي من يكتشف شيئًا جديدًا، مما يشعره بالتفوق علي الآخرين وأنه أعلي درجة.. افعل.. لا تفعل.. لكن هل هذه الدائرة تورث سلامًا نفسيًا فعلاً؟.. هل تجعل الناس أكثر طهرًا؟... ولماذا كان 80% من مرضاي في تلك الدولة يتعاطون البروزاك أو الفيلوزاك علاجي الاكتئاب الشهيرين؟. أعترف بأن هذه الحياة الغاضبة العصبية المتشككة صعبة جدًا، وبعد كل هذه الأعوام لم أر من يستمر علي تشدده السابق.. كلهم يتعبون لكن بعد ما ينقلون الجذوة لشاب جديد متحمس
ليست المشكلة إذن في عم رمضان الذي يريدون أن يقنعونا بأن حبنا له خطأ، لكن في الشيوخ رفعت والكحلاوي والنقشبندي.. في الفهم المصري السمح للإسلام.. المشكلة التي تضايقهم هي مصر نفسها