قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Tuesday, September 15, 2009

أن تكتب فى البيت


أنا أكتب في البيت

الأمر يعود لمشكلة ضميرية، تتعلق بترك زوجتي وحدها مع وحشين صغيرين مفترسين لا يكفان عن العراك والشكوى والطلب. هذه قسوة لا توصف.. كل مؤلف أعرفه له مكان منعزل هادئ يكتب فيه، ومنهم من لجأ إلى المقابر مثل عمنا العبقري خيري شلبي. لكني ما زلت أجد نوعًا من التحذلق والادّعاء في أن أترك البيت كل صباح وأذهب للكتابة ثم أعود في المساء.. يعني دوستويفسكي يا خيّ؟ دعك بالطبع من أن زوجتي ستجد الفكرة سخيفة.. أوشك أن أسمعها تقول لصديقتها على الهاتف
 "البيه واخد شقة لنفسه عشان يكتب!.. قال يكتب قال"
ومن قال إن سمعة الرجل غير مهددة، وإنها ليست كعود الثقاب الذي لا يشتعل إلا مرة واحدة؟ إذا كنت تعتقد أن هذا الكلام للنساء فقط فأنا أهنئك.. أنت ستكون أديبًا عظيمًا

هكذا أقرر أن أكتب في البيت، وهنا تأتي المشكلة التالية: لقد اعتدت الكتابة على الكمبيوتر، بحيث صرت فعلاً أجد عُسرًا في الإمساك بالقلم، وهناك في البيت جهاز كمبيوتر واحد.. والسبب؟ أعتقد دومًا أنه من الخطر ترك مراهق وحده مع جهاز الكمبيوتر خاصة في عصر الإنترنت، حيث يكفي أن تكتب بضعة حروف مثل (ؤبييععتغقكبقبغ) لتجد نفسك في ألعن موقع بورنو عرفته الشبكة. أكتب
 (vdsrsrhgdgdhgdmmnnnb)
 ولسوف تجد نفسك في موقع لهواة أكل لحوم الموتى بعد اغتصابهم، أو موقع لهواة العلاقات المشينة مع سحلية الإجوانا. ذات مرة تركت ابنتي الصغيرة تلعب أمام الكمبيوتر وخرجت.. عدت لأجدها توشك على استكشاف موقع قادها له إعلان تلو إعلان تلو إعلان.. أدركت في هلع أنه موقع مخصص للثرثرة بين المصابين بانحرافات جنسية.. هكذا لم أغلق النت.. أغلقت الجهاز والحجرة ذاتها وخرجنا نشم الهواء
لا أثق في برامج الرقابة على الإنترنت مثل (سايبر باترول) و(نت ناني) لأن الثغرات تحدث.. لهذا أحب أن يستخدم أطفالي الجهاز وأنا بجوارهم والغرفة مفتوحة، ولنفس السبب لا أستعمل في البيت سوى جهاز كمبيوتر واحد فلا تحسبن أن البخل هو السبب

المشكلة هنا أن الإنترنت مغرية جدًا ومليئة بالألعاب الشائقة.. والمشكلة الأسوأ أنني أستعمل ذات الجهاز للكتابة.. كل ما يختص بعملي أضعه عليه من أول قصة كتبتها حتى هذا المقال، ومن رسالة الماجستير حتى آخر بحث لم يُنشر بعد. من هنا تنشأ كارثة في البيت
إن ابنتي تدخل الحجرة.. تقف بجواري في ملل.. تعبث في الأقلام على المكتب.. تدور من حولي.. أسألها عما هنالك فتقول
 "أنتظر أن تنتهي!.. أريد أن ألعب"
أقول لها إنني سأمضي وقتًا طويلاً جدًا.. لا أعرف متى أنتهي
كيف كنا -معشر الكهول- نعيش من دون كمبيوتر؟ (عشت كذلك دون تليفزيون حتى سن العاشرة).. لابد أننا عشنا طفولة شبيهة بطفولة الكلاب إذن. التعبير على وجه ابنتي يوحي بأنني أحرمها حقها في الأكل والشرب أو التنفس.. أب قاسٍ شرير أنا
بعد ربع ساعة تنصرف آسفة، ليظهر ابني الذي يريد أن يكلم زملاءه على برنامج (ماسنجر).. يدور في الغرفة ويجلس على المقعد ويعبث بالأقلام، ثم يسألني في ضجر
 "ألا تنوي أن تخرج أو تنام؟"
 "نعم.. لاحظ أنني أقوم بالتأليف.. وهذا يستغرق وقتًا لأنه عملية خلق إبداعية ولا يوجد زر نضغط عليه كي"
لا يبدو راغبًا في سماع شيء عن آليات الإبداع.. يريد الجهاز فقط، ثم هو مقتنع أن الأمر ليس بهذه الأهمية والخطورة.. وأنا بالتأكيد لست تولستوي، وإلا لعرف هذا أو لرآني أصافح ملك السويد وأنا أتسلم جائزة نوبل.. لو كنت ناجحًا لهذا الحد فلماذا لم أبتع كمبيوتر آخر؟ يظل يراقبني لمدة طويلة ثم يسألني
 "ألاحظ أنك لا تكتب أي شيء"
أصيح في جنون.. أنا أفكر!.. أفكر!.. لست موظفًا في مكتب نسخ.. وكيف أفكر بينما هناك من يراقبني منتظرًا أن أفكر؟.. لو كنت (شكسبير) نفسه فلن أكتب حرفًا بهذه الطريقة

أنهض للحمام -وهو حق فسيولوجي كما تعلم- وأعود بعد دقيقة لأسمع الصخب، ولأجد سيركًا قد نُصب في مكتبي فلا ينقصني إلا أن أبتاع تذكرة على الباب.. بوم بوم كراش فززز!.. ابنتي تقهقه وابني يصرخ منتشيًا، بينما على الشاشة أرنب عملاق يطارد جزرًا يطير أو غزاة فضاء لونهم أخضر يطاردون بشرًا مذعورين.. المهم أن هناك الكثير من الـ بوم بوم كراش فززز في كل مكان
.. أسألهما وسط الضوضاء
 "مللبسيسسسسس؟"
 "ماذا؟"
 "هل قمتما بتسجيل ما كنت قد كتبته؟"
 "لا.."
وبالطبع لا توجد طريقة للخروج من هذه اللعبة بالذات سوى بإطفاء الجهاز ونسف ما كنت أكتبه

هكذا أصرخ فيهما وأطردهما كالذباب من الغرفة. طبعًا هناك حل ممتاز هو وضع مزلاج على الباب من الداخل، لكن زوجتي سوف تتضايق من هذا الحل باعتباري أسجن نفسي وأتركها وحيدة مع هذين الغولين الصغيرين.. لابد أنني أريد الشات مع البنات "المايصة".. هي لا تحب الكمبيوتر ولا تستعمله وتشك فيه، وتعتبره كتلة من الانحراف والفساد الذي تم تجميده.. إذن لماذا يطالب زوجها بأن يجلس وحده مع هذا الجهاز الشنيع؟

كما ترى ليس أمامي سوى حل المزلاج، أو حل شراء كمبيوتر خاص بالطفلين مع ما في ذلك من خطر، أو أن أجد مهنة أخرى غير الكتابة، أو أن أكتب في المقابر، أو أن أنتحر.. كلها حلول غير مُرضية فهل عندك حل سادس؟