====================================
فنان كاريكاتور خليجي -لن أذكر اسمه لأن هذا ليس موضوعنا- ضُبط متلبسًا بسرقة رسومه من المجلات العالمية.. ليس اقتباسًا وليس تأثرًا؛ بل هو نقل مسطرة، مع فارق شاسع في المعالجة الجرافيكية طبعًا، يشي بقلة براعته
قام أحد المدونين المخلصين للحقيقة بوضع رسوم الفنان ملاصقة للمصادر التي سرق منها، مع ذكر التاريخ والمصدر الذي يؤكد من أخذ ممن. إدانة واضحة صارخة لا تحتاج إلى تعليق. هكذا انهمرت الشتائم والاتهامات.. على من؟.. على مكتشف السرقة طبعًا!. فهو مسطول تارة.. وهو شاذ تارة أخرى.. وهو يتعاطى المخدرات.. وهو عبد الغرب.. وهو لفق الرسوم الغربية بنفسه ليتهم الفنان في شرفه. وأنهى أحدهم الصفحة صارخًا: "إلى الأمام يا (.....).. لأنك تسير في المقدمة قذفك أنصاف الرجال بالحجارة"...ممم
مدرسة (الحق على المقتول) مدرسة عربية معروفة؛ لكني لم أتوقع أن تصل الأمور لهذا الحد في أمر واضح كالشمس. لقد لجأوا إلى الكثير من الصراخ ليخفوا الحقيقة، والنتيجة أن من يبصر الصفحة يجد مجموعة من الشتائم ضد المدوّن ولا يفهم الموضوع أصلاً. ومثل هذا كثير في برنامج "الاتجاه المعاكس" الذي يقدم على قناة الجزيرة؛ حيث ينفجر الطرفان في الصراخ قبل أن تبدأ الحلقة؛ فلا تسمع حرفًا، وتتطاير الاتهامات في شقتك؛ بينما المذيع (فيصل القاسم) يقف في الوسط صارخًا: "يا رجل!.. يا زلمة! سأعطيك المجال"، وتنتهي الحلقة دون أن نعرف شيئًا يتجاوز ما كنا نعرفه قبل بدء الحلقة
رجل واحد أمين.. سوف يزحف الشيب على رأسك دون أن تلقاه.. لا تنظر لمرآتك فهو ليس هناك.. صدقني
مثال آخر قوى وخطير جدًا هو حملة التشكيك في لقاح إنفلونزا الخنازير قبل أن يعرف صانعه نفسه آثاره الجانبية، إلى حد أن اللقاح لن يجد من يأخذه بالتأكيد. ومن جديد نرى على قناة الجزيرة ضيفًا قيل إنه خبير في الأوبئة ينصحنا بعدم أخذ اللقاح، وهنا يمارس الإعلام لعبة حجب تفاصيل معينة.. فنحن مثلاً لم نعرف أن الضيف طبيب أسنان ولا علاقة له بالأوبئة، وله كتب مليئة بالخزعبلات ونظرية المؤامرة.. هكذا تم حجب جزء من الحقيقة لتحقيق غاية معينة هي البحث عن أخبار مثيرة مهما كان الثمن النهائي لذلك، وهو عبث خطير لو فكرت في الأمر؛ لأنه يعني أن ملايين الناس لن يأخذوا اللقاح.. وهذا قد يعني وفاتهم لو توحش الفيروس أكثر. اليوم وجد العلم اللقاح لكن أحدًا لن يمسه بسبب العبث في الإعلام وبسبب ثقافة (الفوروورد) هذه، والأصوات عالية جدًا؛ بينما صوت منظمة الصحة العالمية بطبيعته خفيض عقلاني، وهكذا حسمت المعركة في عالم لا ينتصر فيه إلا الأعلى صوتًا، وما من رجل واحد أمين
كما قلت، هناك تدفق شديد للمعلومات ونقيضها، وهو تدفق لا يعرف التعقل ولا يعطي فرصة للتمحيص واتخاذ القرار، والمهم أن الجميع تقريبًا يكذبون.. يكذبون بوجه صلب وأعصاب باردة. والنتيجة هي أن المرء يزداد جهلاً كلما عرف أكثر
بعض القضايا التي تثيرها الصحف وتحدث ضجيجًا، هي في الحقيقة تصفية خلافات بين رجال أعمال، والعاملون في كواليس الصحافة يعرفون هذا جيدًا.. أما رجل الشارع فيجري وراء عواطفه والأعلى صوتًا
قد تقول لي: إن اللون الأسود أو الأبيض لا وجود لهما، وإن كل الأشياء رمادية؛ لكن هناك أمورًا لا تقبل الجدل: هل فلان رجل وطني مخلص أم هو عميل؟
كنت أتكلم في جلسة خاصة عن أحد الوزراء السابقين الذي نعرف أنه المسئول عن تدمير الزراعة في مصر والمبيدات المسرطنة، وهو من فتح زراعة مصر لإسرائيل تعبث فيها كما تشاء.. هنا سمعني أحد أساتذة الزراعة الكبار -وهو رجل محترم جدًا واسع العلم يمقت إسرائيل كالجحيم- فقال لي: "لا تصدق الصحف.. الآن لا أحد يسمعنا، وأنت لن تنفعني أو تضرني، لهذا أقول شهادتي لله.. أنت بعيد عن الصورة تمامًا ولست مختصًا، ولا تعرف ما فعله هذا الرجل للزراعة في مصر.. لو كان عندنا اثنان منه لصرنا من أهم مصدري القمح في العالم. لقد كان مدمنًا للعمل شديد النشاط، والحقيقة أنه أُبعد لأنه كان أنجح من اللازم"
"يا سلام ؟!!... وماذا عما كتبته عنه الصحيفة الفلانية والجريدة العلانية؟ وكل هذه القضايا ضده؟"
"تسوية حسابات لا أكثر.."
إديني عقلك!! .. أحيانًا يؤدي سماع الرأي والرأي الآخر إلى أن تقترب من الجنون
أحد الطرفين كاذب أو مخدوع.. لكن أيهما؟.. بالطبع أميل إلى أن ما نعرفه من صحف المعارضة هو الحقيقة؛ لكن هل يمكنك تجاهل كلام يقوله أستاذ زراعة شريف واسع العلم والخبرة؟
ثمة مشكلة أخرى أعتقد أنها حقيقية، هي أن البخار يصدر من كل مكان.. مئات الثقوب في مجتمعنا يخرج منها البخار الغاضب، والكل ينفث عن كبته في الصحف.. على شبكة الإنترنت.. في المدونات.. أعتقد أن هذا أضعف قوة عزم البخار؛ فلم يعد قادرًا على رفع الغطاء. هذه الضغوط من قبل هزت الأرض في 18 و19 يناير لأنها كانت مركزة؛ لكن البخار اليوم يخرج بانتظام وشكل منهجي فلم يعد قادرًا على عمل شيء على الإطلاق، وكما ترى نحن نتكلم بغضب وصراحة منذ عام 1990 ولم يتغير أو يحدث شيء.. ومن الواضح أننا يمكن أن نتكلم ثلاثين عامًا أخرى
لا يمكن أن يقيد أحد الإعلام من جديد، حتى لو أردنا هذا.. كل التجارب أثبتت أن هذا مستحيل في عصر الفضائيات والإنترنت، وأنت تعرف اختراع البروكسي وسواه
والحل؟.. هل ستبقى هذه الفوضى للأبد؟
ربما كان غيري أقدر على إيجاد الحلول؛ لكني أرى أنه يجب أن يبدأ المرء بنفسه أولاً.. يجب أن يتقي من ينقل الخبر الله فيمن يسمعونه، وأن يبعد أهواءه الشخصية وميوله الأيديولوجية، وينقل ما حدث بالضبط.. ما رآه بالضبط وليس ما يتصور أنه حدث أو ما يتصور أنه كان يجب أن يحدث
القصة التي تؤثر في الكثير هي قصة الرسول صلى الله عليه وسلم يوم مات ابنه (إبراهيم)، وحدث خسوف للشمس.. قال المسلمون: لقد خسفت الشمس حزناً على (إبراهيم).. عندها كان غضبه صلى الله عليه وسلم شديداً مخيفاً، وقال لهم: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا تخسفان لموت أحد ولا لحياته"؛ هذا درس في الموضوعية والدقة.. ما حدث حدث وما لم يحدث لم يحدث.. فقط
العدل.. العدل والحيادية؛ حيث لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا.. يجب تحري الدقة.. ثقافة التمرير يجب أن تكون لها فرامل.. يجب أن يقرأ المرء الرسالة بعين ناقدة قبل أن يمررها لسواه. أعتقد أن معظم مستعملي الإنترنت يمررون ما يصلهم قبل أن يروا محتواه
نفس الروح الناقدة المتشككة يجب أن يتحلى بها من يتابع الفضائيات. ليس كل ما يقال صحيح. أما عن الإعلاميين أنفسهم؛ فعليهم ألا يفرحوا باهتمام الجماهير المؤقت مع كل مقال أو خبر.. إن الفوضى هي نهاية هذا الطريق، ويوم تجتاح الجميع سوف يعضون على أناملهم ويقولون: ليت كان بيننا رجل واحد أمين