أعرف من يرفض حقًا .. من لون الغربة والجوع بعينيه وأعرف أمراض التخمة .. لماذا أتذكر هذا المقطع من شعر (مظفر النواب) الآن وفي هذه الظروف ؟
من الجلي أن (مظفر النواب) كان يعتمد كثيرًا على انطباعه الشخصي، وهذا ما حدث معي بالضبط عندما كنت أشاهد شاشة الجزيرة منذ أعوام بعد ما فكت إسرائيل حصار عرفات أول مرة واجتاحت جنين يوم الجمعة 5 أبريل 2002. كنا نحن نحترق غمًا وألمًا بعد ما رأينا الجثث مكومة في الأكياس السوداء، والمسعفين يلبسون الكمامات وهم يملئون شاحنة كاملة ، ورأينا الرجل الذي قضى ثلاثة أيام حبيسًا مع جثث أمه وولديه وزوجته التي دب فيها العفن، عاجزًا عن دفنهم أو الخروج من البيت. فيما بعد رأيت موقعًا متخصصًا في الصور المرعبة اسمه (روتن دوت كوم) فيه فصل كامل عن مذبحة جنين، ترى فيه صورًا لا يصدقها عقل ولا يتحملها جهاز عصبي بشري، مع تعليق ساخر من صاحب الموقع الأمريكي يقول: ومستر أنان يصر على أنه لم تحدث مذبحة في جنين
رأينا كل هذا ثم رأينا عرفات يتصدر المائدة بينما من حوله رجال فتح يحتفلون (بالنصر المؤزر) الذي هو فك الحصار، كأن لهم من أمرهم شيئًا وكأن إسرائيل غير قادرة على إعادة الحصار في أية لحظة تريد. كان هناك جو عام من المرح أكثر مما يتحمله الموقف .. ضحكات .. قهقهة .. قفشات .. وتوقفت الكاميرا عند رجلين مكتنزين غليظي الشاربين والجسدين جالسين إلى المنضدة يتبادلان المزاح مع ذلك التعبير الفاحش الذي يوحي بأنهما يقولان نكتًا (أبيحة)، ثم لاحظ أحدهما الكاميرا فتقلص وجهه وهمس في أذن صاحبه كي يأخذ باله. كان انطباعي عن المشهد أن هذه وجوه تعاني (أمراض التخمة). هناك كعكة دسمة جدًا في الموضوع، وهم سعداء بأنها عادت لهم بصرف النظر عن الجثث المكدسة في أكياس. انطباع آخر شعرت به هو أن هذه ذئاب يسيطر عليها مدرب محنك يلعب بالبيضة والحجر هو (عرفات)، لكنه لو توارى لانقضوا على كل شيء . كان وضع عرفات مع الإضاءة يوحيان نوعًا بالمسيح في صورة العشاء الأخير الشهيرة لدافنتشي، وقلت لنفسي إن أحد هؤلاء سيكون يهوذا .. لا أعتقد أنني أخطأت كثيرًا لأن أحدهم هو من دس له السم قطعًا، غير أن عرفات لم يكن المسيح بالتأكيد
في هذا الوقت كانت هناك اتهامات عدة للعقيد جبريل الرجوب قائد الأمن الوقائي السابق في الضفة الغربية بتسليم 8 مقاومين فلسطينيين من فصائل مختلفة لقوات الاحتلال، منهم مقاتل من حركة فتح نفسها. وهي تهمة أنكرها بشدة وزعم أنهم تم اعتقالهم أثناء اجتياح بتونيا. قال الشهيد أحمد يس إنه تلقى مكالمة استغاثة منهم قبل اعتقالهم تؤكد أن الرجوب هو الفاعل
هناك مقال شهير يتداوله الفلسطينيون كتبه طبيب فلسطيني اسمه ابراهيم حمامي يكشف معلومات عن محمد دحلان الذي ولد في أسرة فقيرة، وتنقل بين ليبيا وتونس، ويزعم المقال إنه تم تجنيده مع الرجوب من قبل المخابرات المركزية أثناء وجوده في تونس. أما خطة روما فهي اتفاق يقضي بأن يحتوي دحلان كمسئول للأمن الوقائي حركة حماس. هذه هي الفترة التي أطلق عليه فيها اسم (الكولونيل الوسيم) في الصحافة الغربية. امتلك فندقًا خمسة نجوم في غزة، وبدأت خلافاته مع عرفات. والمقال يوجه له عدة أسئلة مهمة: 1- من أين أتى بالملايين ليصرفها على أتباعه في فتح؟ 2- من أين له الأموال ليمتلك فندق الواحة وليشتري مؤخرا أكبر وأشهر منازل غزة 3- هل يستطيع أن يكشف عن مصدر ثروته المقدرة بـ 53 مليون دولار وهو القادم من عائلة معدمة؟ 4- من دفع فاتورة إقامته بفندق كارلتون تاور بكامبردج ليتعلم اللغة الإنجليزية على أيدي ثلاثة من المختصين في إحدى أكبر وأغلى الجامعات في العالم وتحت الحراسة الأمنية؟
لهذا عندما اقترحت أم العيال أن نتبرع للشعب الفلسطيني في المصرف، راقت لي الفكرة. ثم راجعتها مرارًا .. من قال لي إن التبرع سيصل فعلاً للفلسطينيين ؟.. يصل لأهل إيمان حجو وأهل محمد الدرة وذلك الذي حُبس ثلاثة أيام مع جثث أسرته ؟... من يضمن لي ألا آخذ المال من قوت عيالي كي أزيد من ثروة الأخ دحلان وسواه، وهو قطرة في بحر على كل حال ؟
عندما يظهر جبريل الرجوب على الشاشة بصلعته وصوته الفظ، ومصطلحاته : "البنوية العملياتية ، وترتيب البيت الفتحوي "، لابد أن تشعر بالاختناق .. كلهم يتكلمون بهذه الطريقة وأسلوب النسب إلى الجمع ليوحوا بأنهم من كبار المناضلين، تشعر بذات الجو القديم الذي صاحب اغتيال يوسف السباعي في 18 فبراير من عام 1979. ربما ترفض كامب ديفيد ومبادرة السادات لكنك كذلك ترفض من اصطلح إعلامنا على تسميتهم (مجاهدي الميكروفونات) . ما علاقة كاتب رومانسي مثل يوسف السباعي بالقصة ؟، وما الإضافة التي تقدمها باغتياله (منشان القضية) ؟. نفس جو اغتيال عصام السرطاوي في لشبونة يوم 10 إبريل عام 1983. أنت أدنته واعتبرته عميلاً، لكن لماذا تقتله وهو خارج من الفندق بينما على بعد متر واحد منه يمشي السفاح بيريز فتتركه.. لماذا لا تقتل الاثنين يا أخي ؟.. لماذا لا تبدأ بعدوك؟
لقد شاخ رجال فتح ما بعد أوسلو حقًا .. إنه (تعب المعادن) .. لم تعد هناك علاقة بينهم وبين فتح العقائدية الثورية التي عرفناها أيام خطف الطائرات إياها
قارن هذه العيون المنتفخة التي أغلقتها السلطة والنفوذ بالعينين الحساستين الذكيتين لخالد مشعل أو الرنتيسي أو المتحدث الرسمي لحماس هذه عيون تشي بـ (لون الغربة والجوع).. عيون (ترفض حقًا)... ـ
قد تختلف مع حماس كثيرًا جدًا.. هناك ألف تحفظ على فكرة خلط الدين بالسياسة والإسلام السياسي، لكن لا تنكر لحظة أن هؤلاء قوم صادقون يؤمنون بما يفعلون وقد ضحوا بحياتهم فعلاً، وكان سلاحهم – حتى الأشهر الأخيرة – موجهًا نحو هدف واحد فقط هو الهدف الصحيح. أحمد يس القائد العجوز رأينا أجزاء مخه مبعثرة على الرصيف ساعة صلاة الفجر، والرنتيسي تمزق جسده، وخالد مشعل مات فعلا وعاد للحياة لأن الملك حسين لم يستطع قبول اغتياله على أرض الأردن. لا ننكر كذلك أن هناك شرفاء كثيرين في فتح ما بعد أوسلو، منهم على سبيل المثال الرائد سعيد الكرمي من قادة شهداء الأقصى الذي نسفه الإسرائيليون في 14 يناير عام 2002
حماس قد تم وضعها في مصيدة، وكان عليها أن تواجه تحدي جيفارا الشهير: الثائر الذي يجيد التفجير ودك الحصون عندما يطلب منه أن يبني ويشيد وأن يفهم تعقيدات السياسة. جندي المدفعية الذي يطلب منه أن يتحول إلى عامل بناء. ربما كانت حماس على استعداد للتعلم وبالتأكيد كانت قادرة عليه، لكن أحدًا لم يعطها فرصة .. تحالف العالم كله ضد تجربتها كي تفشل . وفي النهاية كانت الضباع المستفيدة في حركة فتح على استعداد للقتال حتى الموت من أجل مكاسبها، واشتعل الوضع في غزة. ربما أكون عاطفيًا أكثر من اللازم، لكني بالفعل أرى الصراع صراعًا بين (من يرفض حقًا) ومن يعاني (أمراض التخمة)ـ