قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Tuesday, March 1, 2011

عيال تفرح


ما دامت مصر ولادة ... وفيها الطلق والعادة
حتفضل شمسها طالعة ... برغم القلعة والزنازين

أحمد فؤاد نجم

****************

هناك في كل ركن بالشارع كانوا يروحون ويجيئون

قسّموا مسئولياتهم، فاهتمت الفتيات بالكنس وجمع القمامة بينما الفتية يعيدون طلاء الرصيف


القفازات في الأيدي والأقنعة على الأنوف مما أعطاهم طابعًا عمليًا ساحرًا.. أولاد كأكمام الورد المتفتح، وبنات مثل الأقمار، يعملون في دأب.. أكثرهم خشونة وتأثيرًا وقف ينظّم المرور الذي كان مضطربًا، فقبل ركاب السيارات سلطته في تواضع

 الجو يغري بأن يتظرف الفتية ويهرّجوا، وأن تظهر البنات ما لديهن من دلال، لكن الحقيقة غير هذا تمامًا.. جو من الجدية والانهماك شبه العسكريين.. هؤلاء يؤمنون فعلاً بما يقومون به

الجدية تشعّ فيما حولها، لذا كان المارة ينظرون لهم باحترام.. لم يُلقِ أحد بتعليق ساخر ولم يتهكم أحد، وأعتقد أن أحدًا لم يجسر على إلقاء علبة تبغ أو كيس في هذا المكان بالذات

عيال تِفرِح.. قلتها لنفسي ودنوت منهم وتكلمت مع بعضهم.. بالطبع كلهم طلاب جامعة؛ منهم طالب الصيدلة وطالب الحقوق وطالب التجارة.. منهم الشاب "الروش" والشاب الملتحي والفتاة المحجبة والفتاة ذات الشعر المكشوف.. كلهم يعملون بجد ولسان حالهم يقول: هذا بلدنا، سوف ننظفه ولا نطلب منك شيئًا سوى ألا تلقي بقذارتك هنا

عيال تِفرِح.. ترددت هذه المقولة في ذهني أيام الثورة، وأنا أراهم يشبكون الأذرع أمام المتحف المصري، كي يحموه بأجسادهم من البلطجية.. يحمون جدو خوفو وجدو إخناتون وسواهما من العظماء

عندما تحررت سيناء رسم فنان الكاريكاتور شديد المصرية حجازي لوحة جميلة تمثل مسئولاً من إياهم (منتفخ البطن والأوداج، ونظارته سوداء، ويدخّن السيجار) يدخل إلى سيناء، وأمامه يغني مطرب منافق من إياهم على العود: "هنزرعك مواويل خضرا.. ونزرعك غناوي"ـ

نرى فلاحًا مصريًا أصيلاً وزوجته يحملان الفأس والغَلَق، والفلاح يقول: "بعد إذنكم سيبونا احنا نزرعها بطريقتنا وما تتعبوش نفسكم!". كاريكاتور يلخّص كل شيء.. ليتنا مرة واحدة نفعل بدلاً من أن نغني.. هذا الجيل قرر أن يفعل

تذكّرت كذلك مقولة نوارة (قلب الأسد) نجم عندما قالت: "نحن شعب عظيم.. كان هذا النظام الفاسد أسوأ ما فينا.."ـ

بالفعل.. في ذهني ظل هذا المشهد وهذا الجو النظيف الطاهر يتردد كلحن عذب يرفض أن يطويه النسيان، ومن حين لآخر أسمع لحنًا نشازًا آتيًا من ذكرى لجنة السياسات، حيث يجتمع هؤلاء السادة الذين كدّسوا الثروات من الحرام، وقد قرروا أن يلعبوا لعبة "عريس وعروسة".. آسف.. يلعبوا لعبة السياسة ببلد في حجم مصر، وأحمد عز يتواثب كمهرجي السيرك على المنصة سعيدًا بهذه اللعبة، بينما يعلن جمال مبارك جامد الوجه أنهم انتهوا من المرحلة الأولى من أجل محدودي الدخل وجاء دور المرحلة الثانية! كلما رأيت وجهه الجامد تذكرت مقولة د. جلال أمين: "هذا الفتى يبدو لي غير سعيد بما يفعله"ـ

ربما كان يشعر بصدق عبارة "أنا ضد العالم" التي تلخّص كل شيء

انتهت هذه المهزلة والحمد لله، وملأت العيال التي تِفرِح الشوارع ليأخذوا حقهم بأيديهم، ويعدّوا المسرح للأجيال القادمة

عندما وقعت الثورة شعرت برضا عن نفسي؛ لأنني راهنت على المكان الذي ستكون فيه قلوب جلال أمين وفهمي هويدي وبلال فضل وإبراهيم عيسى ومحمد المخزنجي وجمال فهمي و... و... الرهان صحيح دائمًا مع هؤلاء.. هم دومًا في الجانب الصحيح حتى لو كان خاسرًا

عندما نجحت الثورة -أو بدأت طريق النجاح- رحت أراقب في استمتاع كيف تغيرت لغة الصحف والبرامج الحكومية.. لم يعد أحد يتكلم عن المخابرات الإيرانية والكنتاكي.. يوم التنحي قرأت صحيفة معارضة جريئة جدًا حتى حسبتها الدستور أو العربي الناصري، ثم اكتشفت أنها الأهرام! عندها عرفت أن مبارك قد انتهى فعلاً.

هؤلاء القوم في الصحف الحكومية والإعلام عباقرة فعلاً.. تلوّنوا بسرعة البرق، وفجأة صارت الصحف مهرجانًا لتحية الشباب وحب مصر.. الكل يحب مصر بجنون، حتى بدا لي أنني الوغد الوحيد في هذا البلد! أفعمت القلوب التي كانت تلعن "سنسفيل عيال الفيس بوك".. أفعمت بالحب والحماس للثورة. كلهم كانوا "مش فاهمين".. ولم أدرِ أن الأمور كانت صعبة لهذا الحد

رءوس الفساد تتساقط، لكن أركان اللعبة تتضح ببطء.. ما أطلقت عليه من قبل "حيلة جولدشتاين" التي تحكي عنها رواية 1984.. جلسات كراهية يومية لإخراج العنف والحقد المكبوتين ضد من يدعى جولدشتاين عدو الثورة الوحيد والأخطر، ونعرف فيما بعد أنه شخصية وهمية. لهذا لا أتابع بحماس قصص بهدلة أحمد عز وجرانة والعادلي والمغربي.. حياتهم في السجن.. ما قاله هشام طلعت مصطفى لعز... إلخ. هناك محاولة قوية لإظهار هؤلاء كأنهم سبب ما أصاب مصر طيلة ثلاثين عامًا.. لو قضينا على هؤلاء فلسوف تعمّ السعادة وتنام الحملان في أحضان الذئاب، ويكون هذا فجر برج الدلو.. طبعًا هذا كلام فارغ.. مجرد لعبة جولدشتاين أخرى

ليس هؤلاء سوى شظية صغيرة ميكروسكوبية من قشرة العفن التي غلّفت مصر

الأسوأ أن هؤلاء يُمنحون الفرصة للظهور، مع النغمة المعتادة: "إنهم يقدّمونني قربانًا لكي يحموا الفاسدين الكبار.. سوف أتكلم.. لقد قاومت الفساد لهذا أطاحوا بي.. لديّ وثائق"ـ

أوافق تمامًا لكني لا أعفي من التهمة أحدًا.. التحقيقات هي التي ستكشف كل شيء.. وأنا لا أتعجّل وأثق بالقوات المسلحة تمام الثقة، فهي التي أنقذت مصر من الاحتراق، وكان بوسعها أن تجهض الثورة أو تستولي على السلطة في أية لحظة لكنها لم تفعل

لكنها لن تربح الشارع بالكامل ما لم نسمع أخبارًا جدية عن التحقيقات مع من هم أكبر من هؤلاء

أفارق هذا الجو العفن، لأعود لنشوتي السابقة وأنا أراقب الشباب الذين يشعرون أنهم للمرة الأولى امتلكوا مصيرهم

المهم أن تستمر روح الثورة وتلك الشرارة المقدسة.. عشت أيامًا كهذه في أكتوبر 1973 عندما كان الشعب كله يدًا واحدة، وعندما كان مأمور القسم في طنطا يشكو لأبي أنه لا توجد جرائم؛ لأن المجرمين يخجلون من عمل أي شيء

لماذا ضعفت تلك الروح مع الوقت؟ تلك هي المسألة.. ربما لأن المصريين لم يكونوا يملكون مصيرهم ولا سياسة بلدهم

عيال تِفرِح.. يجب أن نعترف بذلك.. فلندع التفلسف والتحذلق لوقت آخر