قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Tuesday, December 18, 2012

الاختيار



يتقدم الطابور فتتقدم معه وأنت تشعر بأنك رأيت هذا الفيلم من قبل عدة مرات. سافرت قليلاً ثم عدت لأشعر بتلك الحالة من عدم التوازن والاغتراب، وأنا أحاول ان أعيد حشر نفسى فى الثوب المصرى من جديد. ضيق جدًا.. هل أنا ازددت بدانة أم أن الثوب قد ضاق فعلاً؟

عشت هذا الموقف عدة مرات منذ قامت الثورة.. ربما أرى نفس الجنود ونفس الوجوه وأرى ذات القطة التى تتبول على العشب جوار نفس الشجرة فى نفس المدرسة الثانوية. وكانت المرة الأولى فى استفتاء مارس 2011 المشئوم الذى بدأ ذلك الشرخ بين (نعم) و(لا).. ثم تطوع الأخوة الشيوخ وجعلوها غزوة الصناديق وجعلوا من قال (لا) عدوًا للإسلام كأن الاستفتاء كان حول إلغاء الإسلام أم إبقائه، ومنذ ذلك الحين ظل الشرخ واضحًا وازداد اتساعًا.. وبرغم مرور هذه الفترة الطويلة فما زال الصراع محتدمًا بين من سيقول لا ومن سيقول نعم.. صراع تعدى السياسة بمراحل ليصل إلى العقيدة ذاتها. طالما ظل الإخوان فى لعبة السلطة فلسوف تصطبغ كل انتخاباتنا بطابع دينى، كأنها الصراع بين معسكر الكفر ومعسكر الإيمان

نعم أم لا؟

أنظر لمن حولى فى الطابور.. أحاول أن أستنتج ما سيقوله كل منهم. الملاحظ فى هذه المرة أن كل واحد يحتفظ برأيه لنفسه على الأرجح.. الاحتمال الأكبر أنك ستدخل فى مشادة لا تنتهى وربما شجار حقيقى. أمس حدثت مشادة عنيفة بالقبضات على باب مسجد فى شارعنا بين من قالوا لا ومن قالوا نعم. لهذا السبب لا تجد حول اللجنة مظاهر الدعاية وغسيل المخ التى كنا نراها فى المرات السابقة.. الزحام شديد... لا تنكر أن هذا من مكاسب ثورة يناير الأكيدة: لم يعد أحد يجرؤ على أن يظل سلبيًا.. لا أحد يملك هذا الترف. تعلمنا أن الصوت مهم وخطر. وعندما تعالت أصوات تطالب بعدم المشاركة، بدا لى هذا سخيفًا فعلاً.. اذهب للجنة وقل (لا) إذا كنت ترفض الدستور.. هذا هو ما أفهمه.. قل لا أو ألف لا، أما الانسحاب من اللعبة كلها فهو إصرار على حرق مصر وفرار لا شك فيه.. هناك من يرى أنه لا جدوى من إضاعة الوقت، فالنتيجة (نعم) فى كل الأحوال.. أرى أن هذا لو حدث فليس بسبب التزوير، ولكن بسبب (التربيطات) الإخوانية وبراعتهم فى لعبة الانتخابات، بينما خصومهم متفرقون متناحرون، وحتى وقت قريب جدًا كان الخصوم مصرين على عدم المشاركة باعتبارها قضية كرامة دونها الموت، ثم قرروا ذلك بشروط.. ليس مرسى هو الوحيد صاحب القرارات المتخبطة إذن. لنقل بصراحة إن قرار المشاركة هو اللعبة الوحيدة الصحيحة والممكنة فى مأزق الشطرنج الذى وجدنا أنفسنا فيه

رجل ظريف يقف خلفى قال بصوت جهير:ـ
ـ«ما تعملوا يوم لبتوع نعم ويوم لبتوع لا وخلاص!»ـ

فكرة طريفة.. لكن هذا يضعنا تحت رحمة الحكومة، ولربما نكتشف أن اللجان مغلقة يوم (لا) ومفتوحة يوم (نعم)ـ

هل تقول نعم؟؟.. أى شك أو تردد يجب أن يحملك على قول (لا)ـ

هل تقول لا؟.. لا تقلها لمجرد أن تبدو ثوريًا أو غاضبًا أو لأنك لا تطيق الإخوان.. أو لأن من يقول (لا) يبدو أذكى ويقرأ ما بين السطور. تذكر كلمات أمل دنقل: «المجد للشيطان.. من قال لا فى وجه من قالوا نعم.. وصار روحًا سرمدية الألم». هذه الأبيات القاسية تعكس انبهارًا لا شك فيه بالرفض.. ربما تصل لعشق (لا) فى حد ذاتها.. هناك كثيرون لم يقرءوا الدستور فعلاً، ولا يعرفون عن أى شيء يتكلمون، لكنهم يرفضون وخلاص. منذ يومين قال لى رجل محترم إن الدستور يجعل الرئيس فوق المساءلة ويعزل النائب العام!.. يخلط كالعادة بين الإعلان الدستورى المشئوم والدستور. شرحت له لكنه أكد أنه سيقول (لا) فى جميع الظروف! لو لم تكن قد اخترت بعد، فلتدع ضميرك وعقلك يختاران لك الإجابة الصحيحة.. اقرأ الدستور بعناية وبلا تحرش. لا تدع أحدًا يسخر منك ويستعملك لتحقيق أغراضه السياسية.. هناك أشياء كثيرة تجعلك تقول نعم.. فالدستور به مواد عديدة تكفل الحرية العامة.. يكفل المساواة بين طبقات الشعب. سلطات رئيس الجمهورية محدودة فعلاً.. من الصعب أن يظهر فرعون إله مع هذا الدستور. لن يكون للرئيس دور فى اختيار الأجهزة الرقابية على خلاف ما يزعم الكل.. انسحاب بعض الأعضاء بعد ما شاركوا فى كتابة الدستور فعلاً لا يعنى أن هناك فئة معينة انفردت بكتابته. عشرات الإشاعات التى ذكرت عن هذا الدستور والنسخ المزورة منه، تشى بسوء نية لدى من يرفضه.. لماذا تزور نصًا سيئًا من الأصل؟.. تذكر إشاعة حق الرئيس فى تغيير حدود البلاد.. الإشاعة التى لم يحاسب من أطلقها. دعك من أن (نعم) سوف تنهى فترة الضباب والغموض والتخبط.. سوف يكون لنا مجلس شعب ومؤسسات دولة، بينما (لا) -فى الواقع- تمدد من سلطات مرسى واحتكاره للسلطة. ثمة مأزق آخر هو أن كثيرين لن يقبلوا نتيجة (نعم)، وسوف يتكرر ذات السيناريو الذى حدث فى انتخابات الرئاسة ومجلس الشعب.. سيقال إن إرادة الناس مزورة وأن الزيت والدقيق هما السبب إلخ.. لن تهدأ الأمور فى اعتقادى. الزمن هو الطبيب الوحيد.. لو صمدنا فلسوف تنطفئ الحرائق واحدة تلو أخرى

هناك أشياء كثيرة تدفعك لأن تقول (لا).. لكن من فضلك لا تقل إن من بينها أن الدستور تم سلقه.. هذه إشاعة أطلقناها وصدقناها.. ما تم بسرعة هو التصويت على البنود وليست كتابة الدستور. مثلاً موضوع ارتباط الدخل بالإنتاج هذا.. فقرة غامضة ومريبة جدًا. هناك من يرتابون فى المادة 150 التى تترك القرارات المصيرية خاضعة لاستفتاء شعبى. وبالطبع نعرف أن نتيجة الاستفتاء ستكون نعم دائمًا.. الأطباء متشككون جدًا فى فقرات الرعاية الصحية وقد أرسل لى صديقى المشاغب د, أحمد حسين عدة خطابات حول هذا الموضوع. كذلك هذا الدستور يترك الباب مواربًا لغلق الصحف.. لاحظ أن بوسع الحكومة أن تفعل هذا وتقول إن تصرفها دستورى ولن تستطيع أى محكمة نقض الحكم.. نفس الشيء ينطبق على عودة الحكم العسكرى، وعلى مطاطية تشريعات كثيرة ملتبسة. هناك من يؤمنون أن هناك ألعابًا قانونية إخوانية تتوارى بين السطور... هم لا يثقون بأى شيء ولا أى حرف يكتبه الإخوان

ـ(من هنا نبدأ) على رأى الأستاذ خالد محمد خالد. وعلينا كذلك أن نتعلم أن المرء قد يقول رأيه دون أن يكون متطرفًا سلفيًا يتقاضى أمواله من القاعدة لو قال (نعم).. ودون أن يكون كافرًا ملحدًا يحلم بالقضاء على الإسلام لو قال (لا)ـ

أنا الآن فى اللجنة أتناول ورقة مطوية من القاضى وأمسك بالقلم

تسألنى عما قلته أنا أمام الصندوق؟؟ لست مجنونًا لأخبرك برأيى فتنهال على الشتائم من الطرف الآخر، دعك من أننى لا أحاول أن أفرض أى رأى عليك. هذا ما يفعله الجميع ببساطة. وكما قلت من قبل: اتخذ قرارك أنت ولا تسمح لأى طرف أن يعبث بك، ليبدو أكثر تدينًا وتقوى أو يبدو أكثر ثورية و(جيفارية)ـ

المهم أن الاستفتاء تم، وأننا جئنا لنقول رأينا كما يفعل البشر المتحضرون. هل أجد معك منديلاً ورقيًا أمسح به إصبعى؟