وقعت إصابات عديدة تقترب من الستين فى مليونية الجمعة السابقة عند مسجد القائد إبراهيم. تذكرت ذلك الصحفى الأيرلندى ألستير بيتش الذى كان يسألنى منذ ستة أشهر عن توقعاتى للمستقبل وعن مصير الثورة ومصر كلها.. قلت للصحفى ضمن الكلام إنها ثورة خالية من الدماء، فقال بطريقة عابرة شبه ساخرة: «يجب أن تكفوا عن هذه المقولة.. لقد سالت دماء كثيرة فعلا، ويمكن القول إن ثورتكم من الثورات الدموية فى التاريخ». السمة الأخرى التى لاحظتها لدى كل الغربيين هى الدهشة. لقد كانت ثورتكم رائعة متحضرة فماذا حدث لها بالضبط؟.. وأين مكمن الخلل؟
مكمن الخلل؟.. رامى وإسلام يعرفان مكمن الخلل
يمكننى أن أكلمك عن رامى.. رامى موطنه الطبيعى وسط البلد. تعرفه على الفور بالشعر الطويل المتدلى على كتفيه والباندانا والحقيبة التى يعلقها من كتفه. حقيبة فيها كاميرا رقمية والهاتف المحمول وجهاز كاسيت صغير وديوان شعر.. تعرف أنه ينتمى لعالم جيفارا والبرغوثى وأحمد فؤاد نجم ويسمع أغانى بوب مارلى ومحمد منير. تعرف كذلك أنه مدون نشط ويرتبط على الشبكة العنكبوتية بمدونين آخرين، كلهم أشهر من نار على علم، والأخبار تنتقل بينهم بسرعة.. ما إن يعتقل فلان أو تضرب فلانة حتى ينتشر الخبر كالنار فى الهشيم. شارك رامى فى الثورة منذ يومها الأول ونام مرارًا فى التحرير.. وتعرض لكميات من الغاز تكفى لإبادة جيش هتلر.. وكان فى موقعة الجمل وتلقى قطعة رخام فى رأسه، كما رأى صديقه الحميم يتلقى رصاصة فى رأسه. رامى كان فى محمد محمود ومجلس الوزراء.. وعاصر لحظات تحول الجيش من المنقذ البطل إلى الخصم.. وفى لحظة من اللحظات قرر أن الجيش يحاول تدمير الثورة، لا إنقاذها.. رامى يؤمن أن الإخوان تخلوا عن الثورة وتركوا رفاقهم يذبحون فى محمد محمود.. منذ اللحظة الأولى أعلن الإخوان أنهم لن يشاركوا فى الثورة، ثم وجدوها راجحة فانضموا لها.. لا يعرف رامى ماذا حدث ولا كيف.. لقد ضُرب كثيرًا واحترقت رئتاه وعيناه بالغاز، وفجأة وجد أن الإخوان يسيطرون على مجلس الشعب ثم- كما يحدث فى لعبة الشطرنج- لم يعد هناك سوى خيارين: مرسى أو شفيق، واضطر كثيرون لانتخاب مرسى لمجرد أنه ليس شفيق. هكذا اكتشف رامى أنه فعل هذا كله من أجل المرشد العام ومن أجل مرسى.. لقد خدع خدعة قاسية جدًّا. لقد انفتحت البوابة السحرية وخرجت الذقون والجلابيب كالطوفان فى كل صوب ولن تعود ثانية.. الغد هو غد تطبيق الشريعة وفرق الأمر بالمعروف وضرب الفرق المسرحية بالجنازير، بالطبع وداعًا للسياحة إلى الأبد.. الآن ننتقل إلى إسلام، وهو شاب هادئ له لحية صغيرة. إسلام لم يكن فى الثورة أولا، لأن كثيرين نصحوه باجتناب الفتنة، لكنه نزل إلى الشارع فى جمعة الغضب واستنشق الغاز وتلقى الرخام بدوره. إسلام شاب فقير قادم من الريف، ولديه عالمه الخاص كطالب يدرس فى القاهرة.. المسكن المشترك مع ريفيين مثله، وطعام الحاجّة والدته الذى يكفى نصف الأسبوع ثم تصير الوجبات هى الكشرى والفول.. الحقيبة العملاقة والميكروباص للقرية.. الكيس الملىء بالقرص والكعك.. صلاة الجماعة ودروس الجامع مع الرفاق. أحلام الكفاح التى ستقوده لقمة المجتمع يومًا ما، ويا حبذا لو صاحبت هذا الصحوة الإسلامية. مثّل مرسى لهؤلاء الشباب ولإسلام تحقق الحلم.. هذا واحد منهم بالضبط، وكان بالتأكيد طالبًا ريفيا وحيدًا فى المدينة.. وها هو ذا قد صار رئيسًا للجمهورية.. أحدهم فعلها إذن. وهو يؤم المصلين ويحافظ على صلاة الفجر وملتح، وقد بدأ رئاسته بخطبة أبى بكر الصديق، مما يناسب تصور إسلام عن الخليفة الذى سيقود الأمة للمجد
إسلام يؤمن أن أحداث محمد محمود لم يكن لها أى داع سوى إفساد الانتخابات.. ولهذا لم يشارك فيها. يقول إسلام: لو أنك أردت مهاجمة مركز الشرطة فى أول شارعك فهذا شأنك.. لكن لو لم أشاركك فلا تتهمنى بالخيانة
رامى لم يستطع أن يبتلع هذا كله.. لقد سرقوا الثورة وامتطوها، ثم بدؤوا يقيمون شعائرهم ويصبغون كل شىء بطابع دينى. عندما خرج ليقاتل فى ميدان التحرير كان يحلم باليابان ولم يحلم بأفغانستان.. سوف تتم أخونة الدولة ببطء ويحتل هؤلاء كل المناصب، ولن يرحلوا أبدًا بعد أربع سنوات، لأنهم كائنات انتخابية تفوز فى الانتخابات دومًا، وهناك دعابة شهيرة على الفيسبوك تتساءل: كيف أفلت منصب بابا الأقباط من الإخوان؟.. دعك من الزيت والدقيق وغسيل مخ المواطنين فى صلاة الجمعة، حيث يصغى الأمِّيُّون لما يقوله لهم الإمام ولا يناقشونه
إسلام يرى أن الليبراليين بالغوا فى استفزاز الإسلاميين، ورغم هذا ضغط الإسلاميون على أعصابهم طويلا جدا فلم تفلت إلا عندما حوصر قصر الاتحادية واضطر الرئيس للفرار. هذا قد أفقدهم صوابهم وهجموا على قصر الاتحادية ليفضوا الاعتصام بالقوة.. يعترف أنه كان عملا أحمق إجراميا وقد سبب مذبحة، لكن مقار الإخوان قد حرقت قبل مذبحة الاتحادية.. أى أنهم ليسوا من بدأ العنف.. يؤمن إسلام أن الإعلام يبالغ فى الوقاحة وفى استفزاز الرئيس وإطلاق الشائعات، عسى أن يقوده إلى التهور واقتراف الأخطاء. لقد مشى مرسى قبل هذا إلى مصيدة الإعلان الدستورى الدكتاتورى، لأنه وجد نفسه عاجزًا عن عمل شىء. هم ينتظرون خطأ آخر
رامى يرى أن الإسلاميين يلعبون فى المساجد لعبة غير عادلة، لأن الطرف الذى سيستعمل سلاح الدين رابح دائمًا
إسلام يرى أن الليبراليين الذين تحالفوا مع الفلول يحتلون الإعلام كله ويبلبلون أذهان المواطنين، وهذا يعادل خطباء المساجد على الجانب الآخر. هناك برنامج يومى كامل مدته ساعة لممثل كوميدى يسخر فيه من الرئيس، دعك من باسم يوسف طبعًا، لأن إسلام يحبه. يرى إسلام أن صبر الرئيس على كل هذا السوق المقام لتمزيقه والسخرية منه يدل على أنه رجل ديمقراطى فعلا. وكلما صمت تمادوا وظهرت مواقف بطولية مجانية مثل المذيعة التى تظهر بكفنها، كأنها فى مسرحية لنجيب سرور.. إلخ.. يتساءل: أين كانت هذه المواقف الشجاعة أيام المجلس العسكرى؟
رامى يؤمن أن الإعلام يتحرر.. ويقود الثورة الحقيقية ضد الطاغية مرسى
إسلام يرى أن هذا ليس إعلامًا أصلا.. إعلام يقول إن الغاز يصدر لغزة، وإن سيناء ستباع للفلسطينيين، وإن الدستور يتيح للرئيس تعديل حدود الوطن، وإن مرسى تزوج ملكة جمال لبنانية «صحيفة لبنانية ظلت تنشر تفاصيل حفل الزفاف الذى لا وجود له لمدة شهر».. الإعلام يتعامل مع مرسى كأنه قوة احتلال يجب مقاومتها بكل مرتخص وغال، والغاية تبرر أقذر وسيلة. رامى يؤمن أن الإسلاميين كلهم من طراز عبد الله بدر وخالد عبد الله ووجدى غنيم. الحقيقة أنه يراهم كنزًا يصلح لاستخدامه فى مناسبات عديدة
إسلام يخاف أن تكون هذه هى السياسة فيما بعد.. كل رئيس منتخب يخرج من لم ينتخبوه ليسقطوه. ولكن هل الإسلاميون غير قادرين على ممارسة هذه اللعبة مع حمدين صباحى مثلا؟
رامى يؤمن بجبهة الإنقاذ ويقول: فلتحترق مصر، لكننا لن نقبل بالدستور الذى صاغته جماعة واحدة
إسلام يقول: فلتحترق مصر. لكننا سنطبق الشريعة يومًا ما
رامى يؤمن أن الليبراليين ارتكبوا خطأ العمر عندما فتتوا أصواتهم، لأنهم جميعًا أرادوا الفوز برئاسة الجمهورية. الإسلاميون رتبوا أمورهم ببراعة.. لو تصرف الليبراليون جيدًا لما وجدت هذه المشكلة أصلا. إسلام يرى أن الليبراليين تحالفوا مع أمن الدولة وأعداء الثورة من أجل قهر الإسلاميين، ولسوف تبدأ المذابح بينهم عما قريب. سوف ترى كيف تقتتل التيارات المختلفة فى الشوارع فيما بعد. لكن وقتها سيكون من حق كل إسلامى أن يقول: لجأنا للاقتراع فلم يسمحوا لنا... إذن علينا بالعنف، إن شاء الله.. هات السيف يا غلام
عند الاتحادية التقى إسلام ورامى.. وكان اللقاء عنيفًا وأغرقت الدماء أرض الشارع. وفى النهاية تمددت على الأرض جثتان لا تدركان أن البلد تحترق وأن سعر الدولار وثب عشرين قرشًا فى أيام، وكلاهما مفلس بلا أمل فى الزواج أو السكنى أو العلاج لو ظل حيا.. لقد استخدمهما الكبار فى ألعاب سياسية قاسية وسوف يطلق كل جانب لقب (شهداء) على قتلاه
أين أنا بالضبط من هذين؟ أنا أقف بينهما بالضبط.. أميل لليبراليين أكثر بطبعى، لكنى أساند الرئيس الشرعى المنتخب وأؤمن أنه يجب أن يكمل مدته وإلا دخلت البلاد نفقًا كارثيا.. وأؤمن أن هناك مسارات يجب أن نمشى فيها مثل استفتاء الدستور.. ادخل لتقول نعم أو لا، لكن لا تتحدث عن المقاطعة. وبعد الاستفتاء يجب أن تقبل النتيجة مهما كانت، وتعد نفسك للانتخابات القادمة. إن قبضة الإخوان تضعف وتأثيرهم يقل فى الشارع بلا شك بعد هذه الحرب الإعلامية الشرسة عليهم. إذن لم يكن للزيت والدقيق كل هذا التأثير الذى صدعتمونا بالكلام عنه فيما سبق!... وإذن الانتخابات القادمة تحتمل كل شىء.. المهم أن تبقى مصر واقفة على قدميها حتى ذلك الحين